عجوزان في سوريا

تجاوز الرجلان الثمانين من العمر. لكنهما ما زالا يرفضان التقاعد، ويصران على مواصلة الحرب التي انغمسا فيها منذ ان كانا مراهقين تفصل بين بلديهما حدود محرمة واسلاك شائكة وستار حديدي… سقط وحلَّ محله سلام راسخ دائم لا يمكن ان ينتهك.
ليس من علامات الخرف أنهما الوحيدان في العالم اللذان يعتقدان ان تلك الحرب ما زالت مستمرة، ويدعيان انهما يقاتلان على خطوط الجبهة الأمامية، مثلما يزاولان رياضة الغولف: ما زال صوتهما مسموعا، ما زالت حكمتهما مرغوبة، وما زالت نصيحتهما مطلوبة ومؤثرة في صنع القرار. ومثلما عاد هنري كيسنجر الى البيت الابيض بصفته مفكرا إستراتيجيا ليقدم المشورة الى الرئيس الاميركي باراك أوباما حول سوريا، عاد يفغيني بريماكوف الى الكرملين بصفته المستعرب الروسي الأعرق ليقدم النصح الى الرئيس فلاديمير بوتين حول الأزمة السورية.

يدرك هذان الرئيسان جيدا أن الحرب الباردة انتهت الى غير رجعة، لكنهما بحاجة الى ما يمنع سوء الفهم المتبادل ويحول دون ارتكاب اي خطأ غير مقصود، وهما لذلك لجآ الى العجوزين اللذين يحفظان في تجربتهما الشخصية الكثير من ملفات الصراع والوفاق، لا سيما في الشرق الاوسط الذي كاد غير مرة يشعل الحرب بين بلديهما…
يوم الخميس الماضي قدم العجوزان الماكران نموذجا عن النصائح والأفكار التي يعرضانها على الرئيسين الشابين الحائرين في سبل تصنيف الأزمة السورية والتعامل معها. كان منتدى سان بطرسبورغ الاقتصادي شاهدا على واحد من اهم واجمل السجالات العلنية بينهما: استهل الثعلب الروسي بريماكوف الكلام بالقول إن اميركا ترتكب الخطأ نفسه الذي ارتكبته روسيا التروتسكية عندما سعت الى فرض آرائها وقيمها على دول العالم وشعوبه. عندها سارع الذئب الاميركي كيسنجر الى الإقرار بأن اميركا استخلصت أخيرا العبر الفيتنامية والأفغانية والعراقية، وهي لا تنوي التورط في سوريا، بل ترغب وتعتقد ان بإمكان البلدين التوصل إلى تفاهم حول انهاء الأزمة السورية.

صفق الحضور في المنتدى، الذي كانت غالبيته روسية، للفكرة التي سبق لكيسنجر ان كتبها في صحيفة «واشنطن بوست» في الثاني من حزيران الحالي، وحذّر فيها من مخاطر التدخل الاميركي على النظام العالمي برمته… قبل ان يحملها بنفسه الى الكرملين، نيابة عن رئيسه اوباما، ويسرّ بها مباشرة في إذن الرئيس الروسي بوتين، الذي كان يشتبه بأن في واشنطن من يريد تحدي نفوذ روسيا ومصالحها في سوريا.
بعد منتدى سان بطرسبورغ، افترق العجوزان وعاد كل منهما الى أوراقه وذكرياته، عن حرب باردة دارت بعض وقائعها في سوريا او في محيطها… لكنها صارت من الماضي الاميركي الروسي الذي لن يعود.  

السابق
الشهر الأمني ينطلق اليوم.. فهل يأتي بنتيجة ؟
التالي
مصر بعد مرسي