الليل موتٌ دافئ

لا يعني الانجذاب إليك إلى هذا الحد أنّي أريدك، أو أريد التحدث إليك، أو التحجج بأي عطل في البرنامج الذي أعمل عليه في مكتبي، أو أن شيئاً طارئاً أود الاستفسار عنه. لم أفكر بهذا كلّه. لكنّي أحب مرورك، أحب أنك موجود، وإن لم أرك. أحب أنك تضحك لأشياء تضحكني أيضاً، فأتقصد النظر إليك لنتشارك اللحظة. لم أفكّر بهذا. وأعلم أنك في حياة ما، لم تشأ أن يكون أمامك ما يعكّر صفو مخططاتك، أقرأ هذا في عينيك جيّداً. لم نجلس معاً ونتحدث، لكنّي استطعت أن أسترق النظر إليك قدر اكتفاءٍ جعلني أجوس في مغاورك، وأبتدع لك حياةً وتفكيراً وقلباً وافتراضاً لما أحب أن تكون لو تحدثنا طويلاً.
لم أقل هذا سوى لمخيّلتي، والتي لا تنفك تخلق أحداثاً وقصصاً، آخذ مواقف أحياناً على أساسها، إما تغضبني وإما تتركني أهلل فرحاً، لا لشيء، بل لأنك امتثلت لهرج المواقف، فأحببتك، أي مثلاً لو صار ذلك. وربما لو صار أمامي لما أحببت.
أعلم أن لك عينين شاخصتين تتذبذبان فوق القلب مباشرةً. وأعلم أنهما مباشرتان، عسليّتان، مع أني لست من محبّي العيون الملوّنة. أعلم أن نظرتيهما لا تتغيران تجاه أحد، لأنهما هكذا، كصبّ الرذاذ على النسيم… كنشوة الكمان. أظنّك لاحظت مرّة أنّي أطلت النظر إليك، حين كنت تشرح مشكلة أصابت برنامجنا الذي ندير عملنا عليه، لكنّي ابتسمت، ولم أعط اللحظة أهمية، لأنك – ربما – كنت تنظر إلينا "بالدور"، ولم تقصد الالتفات إليّ بهذا العصف اللافح.
أظنّها لحظات حالمة، لو أنّي اقتربت مرة لأحدّثك لانطفأت. يبقى البعيد جميلاً لأنه ابتداع الخيال.

يشتاق قمر الليل لأن تُفتح نوافذ الذين غادروا.. يُريد الحنين، يُريد الصور.
كنتُ مرّة، أنا ومحمد، صديقي، نسهر في الجنوب مع عائلته، قال لي ونحن جالسان على كرسيّين يستريحان على انعكاس ضوء القمر، إن الليل إذا نام، لا يطلع نهار على أحد. ولولا اسوداده لما كنّا حيينا بعد الموت. في الليل قبس. وفي النهار طلوعنا قبل الشمس. في الغياب انعكاس، ولولا الليل لما ارتاحت الشمس. الليل موتٌ دافئ…
فهمت ما قاله بعد موته.

قال لي جدّي، في أحد مساءاتنا المتسللة من تعبه، حين تنام جدّتي وأمّي، وأكون معه بمفردي، لنتحدث عن الماضي، وعن جدّتي، وعن أمي، وعنّي، وعن الشعر والكتابة والحفظ والإلقاء والحب والدين والله، قال إن الكبار في السنّ يحبّون أن يكون كلّ شيء من حولهم كالسهل، لا يُتعبون أحداً، ولا يشعر بخفّة أرواحهم ـ ثقل أجسادهم – أحد.
وقال إنّي أشبهه، وبكى. يوصيني دائماً بأن أكتب عن الله، لا شيء غير ذلك، لأنه يحب أن تَمُدّ الإنسانية يدها نحو الكمال لتنهل منه الحياة، هذي الحياة. لأنه يريدني أن أعيش الحب بسلام، أن أعيش الأدب في الغيم، كلّما مسّ جميلاً أمطر. أن أكتب عن من أصمّته المشيئة، وأقول عنه. أن أُبصر عن من أعماه الطريق، وأقول له. أن أكتب عنّي كما أراد الله لي أن أكون، كما أرى نفسي أين تكون.

أبي هو ناحيتي التي أريدها.. اتزان الرذاذ بعد المطر.. لينزل على الحب قطرة قطرة، ويغيب فيّ دون القلب، كلّي.  

السابق
إنه الطابور.. الأول
التالي
يعرض نفسه للبيع بسبب البطالة