العنــف الفـردي فـي لبنـان ؟!

يضرب العنف الفردي في كل مكان، وقد انتقل إلى مناطق لم يكن موجوداً فيها سابقاً، وتحولت مقولة: «عارف حالك مع مين عم تحكي» إلى سؤال: هل توجه كلامك إليّ؟ ويعني ذلك: هل تطلب مني إزاحة السيارة من أمام المبنى، أو ضبط عيار المياه، أو الامتناع عن رمي النفايات عند الطريق العام في الحي؟ إذاً، يجب الرد على الطلب، بالضرب، أو بإطلاق النار.
فقد أدى خلاف في الرابع عشر من أيار الماضي على إصلاح دراجة نارية في منطقة الجديدة – سد البوشرية إلى مقتل المواطن إيلي جوزيف نعمان، وإصابة شقيقه برنار، وشاب سوري يعمل في كاراج التصليح يدعى طوني نعمة، وبدأ الخلاف بعراك بالأيدي، ما لبث أن تطور إلى إطلاق نار قام به صاحب الدراجة، وبرفقته شاب مصري. وحينها لاحظ كثيرون أن القتل لأسباب صغيرة، لم يعد مقتصراً على منطقة دون أخرى، أو جماعة دون أخرى.
وعندما حصل حادث القتل في محلة كاراكاس في اليوم نفسه، اضطربت العاصمة بأسرها، ولم يذهب تلامذة إلى المدارس في صباح اليوم التالي. مع العلم أن الحادث كان لايزال فردياً، ولم يكن الأهالي على معرفة بعد بهوية الشخص الذي ارتكبه.
هكذا، يتطور العنف الطائفي الذي يعيشه لبنان، منذ الحرب الأهلية، إلى عنف فردي ينتشر، وتنتشر معه آثاره النفسية والاجتماعية المدمرة. أو لنقل، كما يؤكد عدد من الباحثين، أن العنف الفردي يشكل أحد تجليات العنف الجماعي، حيث لا يعود التمييز قائماً بين قريب وبعيد، بين ابن المذهب، وابن غيره من المذاهب، بين ابن الحي أو غيره من الأحياء.
يقول الباحث في علم الاجتماع سمير خلف: «عندما تصبح الأعمال الوحشية التي يولدها النزاع الأهلي المتمادي ممارسة عادية وحتى صحية، يصبح الناس أقل رفضاً لها، من الجراح النفسية التي تولدها الهزيمة». بينما يرى الباحث الفرنسي رينيه جيرار في كتابه «العنف والمقدس»، أن المظالم ومشاعر الغضب المتراكمة، إذا لم يعمل عليها، تصبح عرضة للاقتصاص من جهات لا علاقة لها بالمنابع الأصلية التي انطلقت منها الأعمال العدائية أساساً.
ويوضح أستاذ علم النفس شارل حرب أن جميع الكائنات الحية تتصارع على الوجود، والعنف هو جزء من ذلك الصراع، ولكن متى أصبح العنف مسموحاً، فهو يشكل إذاً طريقاً شرعياً للإنسان من أجل الحصول على ما يريده، لأنه لا يوجد رادع ولا عقاب.
نعم يحصل ذلك يومياً، بعدما أصبح العنف ممارسة عادية، وقد تطور مجدداً إلى عمليات خطف، وخطف مضاد، حصلت على الحدود الشمالية مع سوريا، وبعد ذلك في حادث الكفاءات – الرويس في الضاحية الجنوبية، وربما يحصل الخطف غداً في منطقة أخرى. فعندما خُطف اللبنانيون في سوريا، ولم تستطع أي سلطة أو جهة إعادتهم، أصبح كل من يشارك في مشكلة، يعتبر نفسه قادراً على القيام بالأمر نفسه، والاقتصاص.. حتى من المقربين.
ويمكن أن يتحوّل الظلم إلى عنف يتخذ طابع القضية، إذ يقول حرب إن أصل المشكلة في المنطقة هو الفقر والبطالة والجهل، وفي ظل ذلك تأتي جهة ما، وتقدم السلاح والنقود، وتنسج مع تقديماتها، قضية، مثل القول للرجال والشبان: أنتم تدافعون عن أهلكم أو عن بقائكم، فيستدعي هؤلاء الاهتمام الإعلامي بهم، ويكرسون أنفسهم كمسلحين، من دون أن يكون لديهم فعلاً قضية.
وتفيد إحدى نظريات علم النفس أنه عندما يكون السلاح متوافراً، تزيد احتمالات استخدامه، وبالتالي يزيد ميل حامله إلى ممارسة العنف. وبما أن السلاح موجود في كل منزل في لبنان، فإنه لا بد من أن يستخدم، كما يقول حرب، مضيفاً أن بيئتنا تتباهى أصلا بالسلاح. ولكن يوجد وفق حرب، أكثر من نوع من الناس الذين يحملون السلاح في لبنان منهم الأشخاص العقائديون مثل «حزب الله»، وهؤلاء لديهم انضباطية معينة، بينما الأشخاص العاديون، قادرون على القيام بحوادث متتالية، ولا يلزمهم أسباب كبرى لرفع سلاحهم في وجه الآخرين.

اللبننة مفهوم عالمي

لعل مفهوم اللبننة هو الأكثر تعبيراً عن الحالة اللبنانية، وقد اتخذه باحثون وسياسيون عرب وأجانب مثالاً لوصف الأوضاع التي تفقد فيها الدولة قدرتها على حفظ القانون والنظام العام، إذ تأخذ الجماعات المسلحة بالتنافس على انتزاع السلطة وممارستها، وذلك ما وصفه الباحث في حقوق الإنسان روبسينغ كومار (أميركي من أصل سيرلانكي)، والباحثة في الصراعات العرقية هيلين دينكوز (فرنسية من أصل روسي)، والتي تحدثت عن لبننة القوقاز في معرض بحثها عن أسباب النزاع بين الأرمن والشيعة على إقليم ناغورني كاراباخ في أذربيجان.
ويقول حرب إن الدولة في لبنان لا تبرهن على أنها ليست سلطة فحسب، وإنما تبدو كأنها تأخذ الإذن لكي تكون سلطة: أرى ذلك كل يوم، من الأشخاص الذين يخرجون من السجون بعد تهم كبرى موجهة لهم. وقد تم الإفراج أخيراً عن متهمين كبار، مثل العميد فايز كرم، وشادي المولوي، وزياد الحمصي، تحت شعار مزيف هو الحفاظ على السلم الأهلي، بينما الطرفان في الحقيقة، السلطة والمتهمون، يمارسان اغتصاب القانون، من أجل الحفاظ على وجودهما.
يضيف إن كل شخص في هذه الحالة، يريد الحفاظ على أمن عائلته ومنزله ومدرسته وعمله، وسيسعى لطلب الخدمة الخاصة ممن يؤمنها، وهو الزعيم الطائفي، أو حتى زعيم الحي. وفي ظل غياب معادلة الحقوق والواجبات، يصبح نيل الحقوق، من خلال الطائفة والزعامة الطائفية. ويجرّ غياب الخدمات العامة الشخص إلى الحلقة الأضيق، طالما أن الدولة لا تبرهن أنها سلطة.
ويتحدّث حرب عن غياب المعايير الاجتماعية، التي تسمى باللغة الفرنسية le norm، ويتحدد بموجبها ما هو المقبول وغير المقبول في السلوك الفردي، داخل المدرسة أو المنزل أو الشارع. وقد اعتاد الناس في لبنان على غياب تلك المعايير، خصوصاً في العاصمة، لأن الناس في الريف لايزالون أكثر تقارباً. وبالتالي يعيش الناس في بيروت ضمن مقولة: إذا كنت أعيش في هذه المدينة، فذلك يعني أنني أملك القدرة على حل مشاكلي بنفسي.. حتى لو وصل الأمر إلى استخدام السلاح.
ويؤكد سمير خلف أن الهوية الطائفية أصبحت الوسيلة الأشد فاعلية في عملية إثبات الوجود، وفي تأمين الحاجات الحيوية والفوائد، فلا قيمة أو معنى لأي فكرة أو زعيم، أو رأي لفرد من أفراد الشعب إذا لم يكن ضمن موقع طائفة من الطوائف. وقد بات ذلك الانتماء سياج الحماية في وجه أي تهديد، وهمياً كان أم حقيقياً.
الأخطر من ذلك، هو القبلية العائدة في لبنان، التي أصبحت أكثر وضوحاً وصراحة عما كانت عليه قبل الحرب الأهلية، وقبل اتفاق الطائف. يقول خلف إن شعوراً بالخجل كان يعتري الناس عندما يتمّ تعريفهم بأنهم أبناء هذه الطائفة أو تلك، بينما نشهد اليوم دفقاً من الجامعات والكليات ومؤسسات البحوث والجمعيات والمحطات الإذاعية والتلفزيونية التي يتم إنشاؤها تحت رايات طائفية معلنة وواضحة، كذلك الاحتفالات الشعبية والثقافية، والتنافس الرياضي الذي يقام على الأسس نفسها، بعدما كانت الرياضة على الأقل نشاطاً إنسانياً حيادياً مشتركاً.

تنصيب العدو لحماية الذات

بعد ذلك يأتي تنصيب العدو لدى الجماعة كما لدى الفرد. كل جماعة تهدد أمنها جماعة أخرى. وهنا يقول شارل حرب إن السنّة وجهوا عداوتهم إلى «حزب الله» تحت عنوان امتلاكه السلاح، مع العلم أن الجميع يملك الأسلحة، وإنما هو البحث عن الحماية السنية في وجه الشيعية القوية.
وللتأكيد على قوله، أعلن أحد الرجال من بيروت خلال حوار معه أنه يقتني سلاحاً في منزله، ولا يستخدمه، إلا عندما يخطب الرئيس سعد الحريري. ولدى سؤاله عن معنى الربط بين إطلاق النار وبين الخطاب، أجاب: إنه زعيمنا وسنطلق له النار ونغني ونرقص أيضاً. ويعني ذلك أن سعد الحريري، بالنسبة إليه الحامي حتى لو لم يكن فعلياً كذلك. ويسري الأمر نفسه عندما يخطب الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصرالله. وقد وصل الأمر إلى حد ممارسة الإنكار لأي تهمة توجه لشخص ما لدى أبناء طائفته، حتى لو كانت التهمة خطرة، بل التهليل له، وإطلاق النار من أجله، ورفعه على الأكف، فقط لأنه ابن الطائفة وتجب حماية وحدتها، في وجه العدو الآخر.
هل يمكن في هذه الحال التي نعيشها السؤال عن أسباب عدم امتناع الناس على قضاياهم الموحدة؟ يقول خلف إنه في حين يكون مصدر المرارة وعدم الرضى لدى الفئات الاجتماعية هو فقدان الوضع الاجتماعي العادل والتقديمات المادية، فإن التشكيلات الطائفية تجد نفسها مهددة بفقدان حريتها وهويتها وميراثها، وصولاً إلى وجودها في وطنها، وهنا ينقل عن الباحث ثيودور هنف قوله إنه في حال حصول التسييس الإثني، فإن الصراع القائم حول ما يمكن تقسيمه، يتحول إلى صراع على مبادئ لا تنقسم. وعند ذلك المفترق يصار إلى تحويل الخلافات الاجتماعية – الاقتصادية إلى نزاع طائفي، وتصبح المسائل التي يدور النزاع في شأنها غير قابلة للتقسيم أو الانقسام، وتصبح إمكانات حل النزاع من دون اللجوء إلى العنف بعيدة المنال إن لم تكن مستحيلة.
والدليل على ذلك هو تحويل أي قضية اجتماعية إلى قضية طائفية. فإذا دعمها مثلاً «حزب الله» تصبح قضية للشيعة، وإذا دعمها «تيار المستقبل» تصبح قضية للسنة.. حتى لو كانت القضية هي الاحتجاج على ارتفاع سعر الخبز، المادة الأشدّ حيوية للناس من جميع الطوائف والمذاهب والمناطق.
وربما يجب تذكير اللبنانيين هنا أن وسائل الحماية بالعنف التي يعيشونها، عاشتها شعوب أخرى في عصور بعيدة، قبل أن تتحوّل إلى دول مواطنين. وقد حاول الفيلسوف الإنكليزي توماس هوبز، تفسير السلوك الوحشي للناس العاديين خلال الحرب الأهلية في بريطانيا، خلال القرن السابع عشر، ويقول خلف إن جواب هوبز لايزال صالحاً، عندما قال في غياب الحكم والحكومة تنفتح الساحة رحبة وجاهزة لكي يخوض عليها الكل حربه ضد الكل من دون ضوابط ولا حدود، ومتى وجدت الجماعات المحرومة نفسها مجردة من حماية حكم قادر، أصبحت مستعدة للقيام بما تفرضه عليها حماية نفسها طلباً للبقاء.
وفي تفسير موازٍ، يشرح فرويد مضار القلق وعدم الاستقرار النفسيين، بقوله إنه حتى عندما لا يكون المرء مهدداً بسلامته الجسدية، يوجد لديه ميل مسبق لضمان حمايته النفسية، وذلك عبر رمي أسباب قلقه وعدم اطمئنانه على غيره، من الأسهل دائماً أن ينفس الناس عن غضبهم ويمارسوا عدائيتهم على أهل الجوار وذوي القربى. وتلك العدائية الباحثة عن متنفس، تجد نفسها أشد نهماً في بيئتها الاجتماعية القريبة والحميمة.
ولدى محاولة تجسيد ما يقوله فرويد، فإن الناس يختبرون يومياً، التعامل مع الجار والقريب والأخ بعدائية، من خلال سلبه حقوقه في المكان والخدمات، وصولاً إلى إطلاق النار عليه. وتصبح العدائية أكثر وضوحاً بين أفراد الأسرة أنفسهم، إذ يصرخ الرجل في وجه المرأة أو يضربها، بينما يصرخ كل من الرجل والمرأة معاً في وجه أولادهما.
أما طريق الخروج من هذه الحلقات الجهنمية، فهو حتى الآن موضع اختبار، لدى فئات مدنية عدة، تجرب وتفشل. ويرى خلف أن المخططين المدنيين والمعماريين والمفكرين والناشطين في الحقول الإنسانية من كل الألوان والمعتقدات، مؤهلون لأداء دورهم بالاشتراك مع غيرهم من الفئات غير الراضية، أو حتى الفئات الغاضبة ولكن الصامتة، من أجل وضع نظام اجتماعي مسالم منتج ومنظم، بعدما تم تحييدهم طويلاً، ولا بد لهؤلاء من خلع ثوب التحفظ والخجل عنهم، وتعبئة قدراتهم الجمالية وطاقاتهم الغنية، لعلهم يشجعون اللبنانيين على الالتفات إلى تخطي هوياتهم الفئوية والتواصل مع الآخرين.  

السابق
بدء جلسة طاولة الحوار في بعبدا
التالي
الأسير يُدخل صيدا في الاحتقان..«سلمياً»