الربيع العربي والدروس المستفادة لبنانياً

في غمرة الانتفاضات الشبابية التي تعم العالم العربي منذ العام 2011 ، تحتاج قوى التغييرالعربية إلى مقولات علمية أنتجتها كوكبة من الرموز الثقافية الكبيرة، العربية منها والعالمية، ومنهم من دفع حياته ثمنا لدفاعه عن حرية الكلمة والموقف المقاوم لكل أشكال القمع والإرهاب الذي تمارسه الأنظمة التسلطية العربية.
ولبنان الذي يعتبر في طليعة الدول العربية الأكثر إنفتاحا على حرية الكلمة والرأي الحر، قدم نخبة من خيرة مثقفيه الذين إستشهدوا على أيدي قوى ظلامية أودت بحياة عشرات المثقفين. يكفي التذكير ببعض من إغتالتهم قوى معادية لحرية الفكر ومنهم مثقفون كبار من أمثال كمال جنبلاط، وحسين مروة، وكمال الحاج، وتوفيق يوسف عواد، وأنطوان عبد النور، والشيخ صبحي الصالح، وميشال سورا. ثم تبعتها سلسلة أخرى كان من ابرز ضحاياها جبران التويني، وسمير قصير. ناهيك عن أساتذة الجامعات، والسياسيين، والإعلاميين، ورجال الدين ممن إستشهدوا في حرب أهلية ما زالت نتائجها السلبية تتهدد مصير لبنان واللبنانيين. ويتذكر اللبنانيون في 19 أيار من كل عام شهداء الحرية من مثقفيهم الذي قضوا دفاعا عن حرية الكلمة والبحث العلمي. و يتضامن مثقفوهم على مدار السنة لمواجهة الاغتيالات والقمع وسيف الرقابة المصلت فوق رؤوس المبدعين اللبنانين . وتزايد أخيرا قمع القوى الظلامية المعادية للفكر الحر، وثقافة التغيير، والفن الملتزم بقضايا المجتمع والإنسان. وكان آخر تجلياتها تهديد الشاعر أدونيس بالقتل، ومحاكمة الفنان عادل إمام على أعماله الفنية السابقة، وفرض رقابة صارمة على المسرحيات والأفلام والمسلسلات التلفزيونية وغيرها.
تبنى المتنورون العرب، وفي طليعتهم المتنورون اللبنانيون، مقولات عقلانية تساهم في نشر تصور عقلاني لبناء دولة ديموقراطية سليمة تقوم على العدالة الاجتماعية، والرفاه الاقتصادي، وإعتماد الكفاءة الشخصية في مجال تولي الوظائف وإدارة شؤون الدولة العادلة. وطالبوا بدولة القانون والمؤسسات التي تنقل اللبنانيين من مرتبة رعايا الطوائف إلى دولة المواطنة التي تساوي في ما بينهم في الحقوق والواجبات. وأدركت النخب الثقافية العربية أن عهود التسلط السياسي، والقمع الدموي، والهيمنة الاقتصادية، قارب نهايته المدوية بعد أن إنتفض الشباب العربي ضد القهر، والاضطهاد، والقمع، والتخلف، والأمية، والبطالة، وغيرها. وهي دول لا تستطيع اليوم مواجهة تحديات عصر العولمة لأنها عرضة للتفكك الداخلي تحت وطأة العصبيات الطائفية والمذهبية والقبلية، والعائلية، والمناطقية وغيرها. وشاركت النخب العربية في مواجهة كل ما هو غير عقلاني في المجتمعات العربية، وتناولتها بالنقد البناء من موقع التغيير الشمولي. ولم يكتفوا بنقد المقولات الطائفية، والدينية، والقبلية، وغيرها بل دعوا إلى تنشيط التفاعل الإيجابي بين المقولات النظرية والممارسة اليومية. ودعوا إلى بناء التحالفات السياسية المرحلية على أسس عقلانية واضحة .
فلا يجوز أن يطغى التكتيك اليومي على صلابة المواقف الاستراتيجية الداعية إلى التغيير الشامل. وتم التشديد على مقولات الفكر المقاوم لكل أشكال القمع والإضطهاد لأنه ضرورة حيوية لبناء دولة ديموقراطية حقيقية، وكشف زيف الإيديولوجيا الشعاراتية التي تصدر عن نخب بيروقراطية أو إيديولوجية تتقن إطلاق الوعود الكبيرة لكنها ترفض القيام بأي تغيير جذري. وتتمسك بالثقافة السائدة التي ساعدتها في الوصول إلى السلطة لتستخدمها في تأبيد سيطرتها السياسية عبر إصلاحات شكلية لا تمس بنية النظام السياسي القائم.
لقد نبهت قوى التغيير منذ عقود طويلة إلى ضرورة الفكر النقدي الذي يقدم تحليلا علميا دقيقا لواقع العالم العربي، ودعوا إلى إنتاج معرفة دقيقة تحلل واقع المجتمعات العربية بأدوات معرفية علمية وليس برغبات ذاتية. فتساهم مقولاتها النظرية في تغيير الواقع العربي تغييرا شموليا لصالح القوى الشبابية والشعبية التي أطلقت إنتفاضات الربيع العربي، وما زالت تناضل بصلابة من أجل التغيير الجذري الشامل. وتوقع بعض المثقفين العرب فشل التغيير المرحلي زمن الانتفاضات العربية بسبب غياب المقولات النظرية السليمة وقوى التغيير الجذري القادرة على حملها. فأسلمت الجماهير العربية مصيرها إلى قيادات إنتهازية، وقوى سياسية تفتقر إلى الكاريزما الشخصية، وإلى الرؤى الثقافية. وهي تروج لشعارات شعبوية قادت في الممارسة العملية إلى تدمير الطبقة الوسطى، وعممت الفقر، والبطالة، والجهل، والمرض، ودمرت مساحات واسعة من الطاقات العربية، البشرية منها والمادية. فكانت تلك السلبيات من الأسباب المباشرة التي قادت إلى إنتفاضات الربيع العربي التي ما زالت تبحث عن أدوات معرفية دقيقة بعيدا عن الإيديولوجيا الدوغمائية. فعصر العولمة يشهد تبدلا سريعا لدى جميع الدول والشعوب. ومن أولى واجبات المثقفين المناصرين لإنتفاضات الربيع العربي أن يطوروا مقولاتهم النظرية بالتزامن مع تطور مواقفهم النضالية، لتعزيز فرص التغيير الذي يتلاءم مع التبدلات العاصفة التي يشهدها العالم العربي بكل تناقضاته. ولكن فرص تغييره متوفرة لبناء مستقبل أفضل للشباب العربي في زمن حرية الكلمة والفكر المقاوم، وإستنباط مقولات نظرية تقدم تحليلا علميا رصينا للمشكلات التي تعانيها المجتمعات العربية مع إقتراح الحلول العقلانية لها.
أما في لبنان، فقد حاولت القوى السياسية المسيطرة تعطيل مسار القوى الشبابية التي تريد إسقاط النظام الطائفي. وهي تموه الصراع الاجتماعي من خلال تكثيف مقولات ايديولوجية أعطت البعد الطائفي المرتبة الأولى في بنية الدولة والمجتمع في لبنان. فكان من ثمارها المرة تضخم الانتماء الطائفي وتحوله إلى إنتماء مذهبي، وضمور الانتماء الوطني. ونجح النظام السياسي الطائفي في اعادة انتاج أدواته المعرفية، ومؤسساته السياسية على أسس طائفية يصعب إختراقها. وزادت حدة الانتماء الطائفي الذي يعيد انتاج النظام السياسي الطائفي في محاولة لتأبيده. لكن السياسة التي إعتمدتها الدولة اللبنانية على مختلف الصعد السياسية والاقتصادية والإجتماعية والتربوية والثقافية، لم تعد خافية على الشباب اللبناني. وتبلور رد عملي خجول على تلك السياسة بتبني الشباب شعار" الشعب يريد إسقاط النظام الطائفي في لبنان". فلن يبقى شباب لبنان طويلا بمنأى عن إنتفاضات الربيع العربي التي أسقطت أربعة قيادات عربية في العام 2012 ، وما زالت تعمل على إسقاط المزيد منها .
  

السابق
مصطفى «جِبِت الغراض» لـ ناتالي؟
التالي
تيّار المستقبل أمام الحوار: السلاح لا الاستراتيجيا