إنسان أم مواطن؟

كان يمكن لقدره أن يكون مخالفا تمام الاختلاف، أيّ ربما تسنى له أن يصبح شخصا لفّه النسيان إلى غير رجعة. بمعنى آخر، لكُنّا وجدنا أن تاريخ الأدب لم يكن ليذكره مطلقا في حولياته. إنما هي الصُدف ـ ربما ـ التي شاءت أن تعود لتجعل منه واحدا من كبار شعراء هذا العصر. شاعر لا ينفك الجميع عن اكتشاف نص جديد له كل فترة. أو على أقل تعديل نجد بحثا ما يعود ليلقي المزيد من الأضواء على هذه التجربة الكتابية الغريبة التي أرادت أن تبقى في الظل، وأن لا تخرج مطلقا إلى النور وأن تبقى أسيرة الحقيبة التي راكم فيها نصوصه.

حين تم اكتشاف تلك «الحقيبة السريّة»، وتمّ الكشف عما تحويه من أسرار وأوراق متعددة، خرج منها مارد لم يتوقف منذ ذلك الوقت عن إراقة الكثير من الحبر ومن الدهشة أمام نصوص متعددة الأسماء، (كلّنا يعرف حكايات البدلاء الذين اخترعهم وكتب بأسمائهم)، كما هي متعددة الاتجاهات والتيّارات، حتى يبدو كأنه أبدع وحده كلّ تاريخ الحداثة الشعرية الأوروبية.
أعود للحديث عن فرناندو بيسوا، لا بسبب كتاب صدر عنه مؤخرا، أو بسبب العثور على ورقة ضائعة له، لم تنشر من قبل، بل ببساطة، بسبب جملة عابرة انتبهت لها مؤخرا، وأنا أعيد قراءة بعض أعماله. جملة قد تبدو عادية بالنسبة إلى الكثيرين، لكنها استوقفتني فعلا، لدرجة أنني طبعتها وعلقتها فوق مكتبي. ربما لأنني وجدتها على كثير من الارتباط بواقعنا نحن، في هذه البقعة من العالم. ربما كان هذا هو قدر الشعراء الذين يبقون «على قيد الحياة طويلا» أي بمعنى أنهم لا يغيبون من المشهد الإنساني، لأنك تجد لديهم ما يعنيك أنت شخصيا حتى وإن كانوا يأتون من ثقافات أخرى. لا أعرف حقا، هل بوسعنا بعد أن نميز بين هذه الثقافات ونتحدث عن اختلافات في المشهد الإنساني الفكري. تقول الجملة: «الإنسان (الكائن البشري) فوق مستوى المواطن. ما من دولة تساوي شكسبير».

أفكر فعلا، هل هذه الدول التي أنشأناها منذ بداية حركات الاستقلال أفسحت حيزا لهذا الإنسان؟ نتحدث دائما عن المواطن، لكننا ننسى فعلا حقوق هذا الكائن حتى البسيطة منها، التي من دونها لن تكون هناك أي مواطنة. كأن على المواطن مثلا أن يتخلى عن كل هذه التفاصيل التي تشكل عصب وجوده كالحرية والديمقراطية إلى آخر ذلك. في أي حال، فعلا ماذا تساوي هذه الدول السياسية من دون إنسانها، من دون «شكسبيرها». ليس هذا حلما بالتأكيد هل تذكرون مثلا اسم ملك انكلترا (أو ملكته) زمن شكسبير؟ هل يذكر البرتغاليون اليوم اسم سالازار أم يذكرون اسم بيسوا؟ فقط لأن الكاتب هو ذلك الإنسان وقبل أيّ شيء آخر.  

السابق
السفير: التوتـر الـتركي السـوري .. ينفجـر فـي الجـو!
التالي
هل هي نهاية الأحزان في المخيّمات أم بداية لفصل جديد؟