أزمة سوريا طويلة وكذلك لبنان

أصبح الأمن في يوميات النزاع السياسي. يوماً تلو آخر ينخرط أفرقاء جدد في التسيّب المتنامي داخل انقسام حاد يلقي بثقله: بين مَن يدعم النظام السوري، ومَن يصدّق سقوطه. بعد الشمال، وبيروت قليلاً، وصولاً إلى الجنوب، يقترب معظم لبنان تقريباً من دائرة الاستهداف
لا يعدو التسيّب الأمني في الأيام الأخيرة، في رأي مسؤولين رسميين، سوى صورة مكمّلة لارتباط الاستقرار اللبناني بالأزمة السورية وفق معادلة بدأ المسؤولون يتداولونها ومؤداها: أزمة نظام الرئيس بشّار الأسد طويلة، وكذلك أزمة لبنان. يقيم النظام هناك في مأزق يصبح أكثر تعقيداً يوماً بعد آخر، في ظلّ خيارين غير متاحين ولا وشيكين: لا سقوطه قريب ولا كذلك انتصاره.

لم يُتح تعاقب الأحداث المنصرمة بين المخيّمات الفلسطينية في نهر البارد والبداوي وعين الحلوة والجيش، في أول ردّ مباشر على «إعلان بعبدا »، التأكد فعلاً من التزام المتحاورين اللبنانيين هذا الإعلان، وجدّية تحييد لبنان عمّا يجري في سوريا، وصرف النظر عن تسعير الاضطرابات في الشمال على طريق إنشاء منطقة عازلة هناك. أتت طاولة الحوار الوطني في أعقاب أحداث طرابلس وعكار وبيروت، والرهانات التي رافقتها، كي تنقض الاندفاع نحو الفوضى. إلا أن المرحلة التالية لنتائج الحوار لم تُظهر تماماً أن هذا التحييد بمثل هذه السهولة.
جزمت طاولة الحوار بخياري التحييد وفصل الانقسامات اللبنانية عن الاقتتال السوري، ووفّرت غطاءً واسعاً للجيش لترجمة الخيارين هذين. لكن الأحداث الأخيرة أبرزَت واقعاً مناقضاً. لا يزال الترابط متيناً. ما يحدث هناك تتردّد تداعياته هنا: عندما ترتفع وتيرة العنف، وعندما تتراجع.
يلاحظ المسؤولون الرسميون أيضاً أن ترابط الأزمتين تعكسه طبيعة الجدل الدائر في أكثر من اتجاه بين الأفرقاء اللبنانيين الذين يغالون في تثبيت الانقسام من الأزمة السورية، بدءاً بالموقف من نظام الأسد، مروراً بسلاح حزب الله وانتهاءً باستخدام الاضطرابات الداخلية الناشئة عن الأزمات الاجتماعية في الاحتقان المحلي. يتحدّثون عن أسباب مفتعلة لتقويض الاستقرار، وأبرزها:

1 ــ إدخال الجيش طرفاً في النزاعات السياسية القائمة عبر إيجاد عدو جديد له بين جولة وأخرى من الاضطرابات الأمنية. تارة يجد نفسه وجهاً لوجه مع تيّار المستقبل في طرابلس، وطوراً وجهاً لوجه مع التيّارات السلفية في طرابلس وعكار، ومرة ثالثة مع المخيّمات الفلسطينية في الشمال والجنوب. في كل مرة، في الحوادث المتعاقبة، يُقتطع جزء من هيبة الجيش بالاعتداء على عسكرييه وحواجزه ويُنتقد انضباطه، ويُحمل على التراجع تحت وطأة التهويل بفتنة، ويُمنع من استخدام القوة في جبه المتسببين بالاضطرابات كي لا يفلت الزمام من يده وتدخل البلاد في المجهول. وهي الحجّة التي تواجه بها المؤسسة العسكرية عندما يُقال لها إن حسمها أي اضطراب بالقوة غير محسوب العواقب.
وتبعاً لما يكشفه المسؤولون الرسميون، لا يبدو الجيش وقوى الأمن في وضع يُحسدان عليه. في بعض مناطق الشمال يُمنع العسكريون من التجوّل بالبزّة منفردين، بل يُدعون إلى التحرّك مجموعات، أو إبدال البزّة بثياب مدنية لدى مرورهم في بلدات باتت تمثل بيئات مناوئة للجيش، على طرف نقيض من كل ما تردّده المواقف السياسية.

2 ــ رغم الانزعاج الظاهر الذي تبديه المخيّمات الفلسطينية من الإجراءات التي يتخذها الجيش عند مداخلها، وتقييد حركة الانتقال بينها وبين خارجها بشروط التدقيق والمراقبة، إلا أن توقيت الإفصاح عن هذا الانزعاج ليس بريئاً. لم يبالغ الجيش في تلك الإجراءات ولم يعزّزها، ولم يُدخل تعديلات أساسية عليها، وتوخّت باستمرار منذ مطلع التسعينات في مخيّم عين الحلوة، وبعد عام 2007 في مخيّم نهر البارد، التشدّد في منع خروج مسلحين من المخيّمين أو فرار مطلوبين إليهما أو منهما، وكذلك نقل أسلحة وملاحقة خلايا إرهابية مقيمة فيهما. وهو ما يثابر عليه.
مع ذلك، على أثر حوادث طرابلس وعكار، وانتقال ارتداداتها إلى الطريق الدولية شمالاً وجنوباً، وإلى البقاع، بدا ثمّة مَن يسعى إلى توسيع نطاق الصدام مع الجيش الذي بات يتساءل بعد الاعتداء على حواجزه عند مخيّمي الشمال والجنوب وإطلاق النار عليه هل يستعدان للدخول طرفاً في النزاع اللبناني ــ اللبناني.
وشأن اللبنانيين، ينقسم الفلسطينيون في المخيّمات أيضاً على الموقف من سوريا ونظامها. وشأن الحال السنّية المتشدّدة في الشمال التي تريد أن تطل برأسها بقوة في الواقع السياسي الحالي، تشهد المخيّمات الفلسطينية حالاً مماثلة لحالات سنّية متشدّدة معظمها مطلوب من العدالة وأعداد وفيرة من العاملين في نطاقها يلاحقها القضاء بجرائم إرهابية. وهؤلاء يجدون أنفسهم ــ يضيف المسؤولون الرسميون ــ معنيين بالخروج من الحصار داخل مخيّماتهم إلى ساحة المواجهة خارجها.

3 ــ رغم أن قطع الطرق بإحراق دواليب لا يمت بصلة مباشرة إلى أحداث الشمال ولا إلى الموقف من الأزمة السورية والنظام، باتت هذه مكمّلة للفوضى والتسيّب. ويُفاجأ المسؤولون الرسميون عندما يكتشفون، من المعلومات المتوافرة لديهم، أن الفريق الشيعي هو الأكثر افتعالاً لقطع الطرق في مناطق تقع في نطاق نفوذهم، وخصوصاً عند الشرايين الحيوية التي تربط العاصمة بمناطقها ومرافقها بدوافع شتى. ولاحظت وفق المعلومات تلك أن ثمّة مَن يُلزّم قطع الطريق من جهة إلى أخرى. تحضر مجموعة أشخاص وينزلون دواليب ويحرقونها فتقفل الطرق، ثم ينسحبون ويأتي سواهم للمهمة نفسها التي انطوت قبل يومين على تجارة رابحة هي تمكين قاطعي الطرق، وخصوصاً عند المطار، من جني مبالغ مالية عن كل شخص، في طريق عجلته إلى المطار، يُساعد على الانتقال بين خطي تماس الدواليب المشتعلة.

بذلك، بذرائع الكهرباء والأزمة المعيشية وخطف لبنانيين في حلب، يصبح الدولاب في منزلة السلاح عندما يؤدي إلى بثّ الفوضى، وحمل القوى الأمنية على التدخّل بحذر تفادياً لكلفة سياسية وأمنية من جراء الاصطدام بمفتعلي الحوادث كي لا تتكرّر، في آن واحد، حادثة مقتل الشيخ أحمد عبد الواحد ومرافقه في عكار وحادثة مقتل ثمانية مواطنين في مار مخايل عام 2007، ويمسي الجيش في فوهة الصدام.  

السابق
مسؤولو الفصائل الفلسطينية: الشارع بدأ يفلت من أيدينا
التالي
خلايا نائمة