على طريق الانقلاب

ماذا يعني أن تحتفل بعيد للموسيقى؟ 21 حزيران موعد هذا العيد، بالعرف الفرنسي الذي أطلقه وزير الثقافة الاشتراكي جاك لانغ في العام 1982. هذا اليوم هو الموعد التقريبي أيضاً لما يسمى بـ«انقلاب الشمس الصيفي»: مرّة كل عام تصل الشمس في مسارها إلى نقطة الميل الأعلى. يوم لاختتام دورة وافتتاح أخرى.
هو إذاً، بالدرجة الأولى، زفير أخير قبل شهيق العام الموسيقي – الشمسي المقبل.

من زاوية الموسيقي، فرصة لنفض الزوائد التي تلتصق بروحه، وهو يلاقي جمهوراً واسعاً في هذا اليوم، فيلقي على مساره الإبداعي نظرة جديدة، تخوّله الولوج في طبقة مختلفة من تراكم جهوده ورؤاه. ولا يعني ذلك، احتكام الموسيقي بشكل مطلق إلى مقياس «شعبوية» الموسيقى، لأن العلاقة بين الطرفين أبعد وأعقد من «ما يطلبه الجمهور»، بل تشمل أيضاً ما يراه الفنّان، ومدى قدرته على نحت ذوق المستمع وتحويله.
أمّا من زاوية الميدان الموسيقي عامة، فالعيد أيضا محطة لممارسة نقد ذاتي متوازن، يقرأ التجربة الموسيقية الجماعية، بمختلف توجهاتها ومستوياتها الاحترافية والهاوية، التقدمية والتقليدية، التجريبية والنمطية. وليس لهذا النقد أن يكون عقلنة «أبوية» للفعل الموسيقي، تبتّ في من يكون ومن لا يكون، بل عليه أن يفتح مساحة لتعميق فهم أبعاد العلاقة بين الموسيقيّ والمستمع، بين الموسيقى كسمة أساسية للمجتمع والبيئة الإنسانية، وباقي مكونات التجربة الجماعية، كالسياسة والاقتصاد والفكر والدين.
ومن وجهة سمع «المواطن العادي»، يجدر بهذا العيد أن يقلب موازين الهرم الاجتماعي موسيقياً، باختراق كل الحواجز المادية والتكنولوجية والطبقية التي تعزل فئات معينة ضمن «عصبيات» موسيقية نمطية متكررة. مساحة هذا الاختراق تقوم بشكل أساسي على الميدان المشترك الجامع: الشارع.

على أساس هذه المعايير العامّة لمفهوم «عيد الموسيقى»، يمكننا تقييم التجربة اللبنانية في هذا السياق.
أولاً، لا بدّ لنا أن نلاحظ ضيق مساحة الاحتفال الموسيقي في لبنان، فهو شبه محصور في العاصمة بيروت، حيث يكون إطاره محدوداً أصلاً في مناطق العاصمة التي تشهد بطبيعة الحال وفي باقي أيام السنة، نشاطا موسيقيا علنياً بارزا مقارنة بباقي أحياء بيروت وشوارعها. وهنا يفشل «عيد الموسيقى» في تحقيق أحد أهم أهدافه النظرية، أي تعريف جماهير واسعة على اتجاهات موسيقية جديدة، وتكريس وحدة الهوية المجتمعية عبر لقاء الطبقات والمناطق والأيديولوجيات المختلفة.
ثانياً، تغيب عن محطة «العيد»، منهجية النقد اللاسلطوي التي تحدثنا عنها. فمساحة النقد الموسيقي المتوافرة حالياً في لبنان بمعظمها غير جديّ، يميل إما إلى الاوتوماتيكية الصحافية أو إلى الشاعرية في مقاربة العمل، ويفتقر إلى التغذية الموسيقية والبنى التحتية الضرورية، في ظلّ رضوخ «المثقفين» اللبنانيين النظريين لتهميش الثقافة جغرافياً وطبقياً بل حتى عمرياً، ولتحييدها عن دينامية الواقع الاجتماعي.

أضف إلى ذلك المقاربة «الديناصورية» التي تنتشر بين كثير من ممارسي النقد الموسيقي في لبنان، حيث تنتشر عقدة «وين أيامك يا أم كلثوم؟» و متلازمة «نوستالجيا الزمن الذهبي».
أخيراً، نلاحظ أن إحدى الإشكاليات التي تواجهها الموسيقى و«عيدها» في لبنان، هي عملية الترويج الموسيقي، من الانتقاء إلى التسويق. فالذي بيده اليوم في لبنان، مفاتيح إدخال الموسيقى إلى آذان المستمعين في بيوتهم، إما شركات إنتاج رأسمالية تنتمي إلى مقاربة «اقتصاد الموسيقى»، أو وسائل إعلام تتبع أجندات سياسية ودينية واجتماعية دقيقة، أو منظمات دولية أجنبية غير ملمّة بحيثيات الواقع الاجتماعي ناهيك بالواقع الموسيقي والفنّي عامة.
«عيد الموسيقى» يندرج بشكل خاص ضمن هذه المجموعة الثالثة التي ذكرناها، فهو بلا شكّ محطة فرانكوفونية بالدرجة الأولى، تنظر إلى اللبنانيين، موسيقيين ومستمعين، بعين مستشرقة لا تتوخى عضوية المكان والزمان والإنسان. فنرى حيناً، تدويراً لزوايا الخطاب الفني في حالات مثل «الراب» أو «الروك»، واتباعا في حين آخرً لكوتا سياسية – اجتماعية تلبّي قراءة الجهات الممولة الأجنبية، فيما يبقى الطابع العام «اكزوتيكياً» أكثر منه جوهرياً أو تقدمياً أو حتى تقليدياً.
أمّا الحركة الموسيقية الحقيقية في لبنان، التي تشهد اليوم مخاضاً «ثورياً» لم تلتفت إليه أضواء إعلامية كثيرة، فهي في خضم مرحلة يمكن وصفها بالمعركة، مع كلّ ما سبق ذكره من إشكاليات، إضافة إلى الرقابة السياسية والدينية والتضييق الاقتصادي المؤسساتي.

يهمني هنا، مثالاً لا حصراً، أن أشير إلى مسار تجربة أنتمي إليها بنفسي. تفاعلت مع قالب «الراب» الذي أتى من الخارج، عندما وجدت فيه امتداداً معاصراً لثقافتها الكلامية الشعرية الفطرية، ومساحة موسيقية مدينية مألوفة. لكنها خرجت من القالب، إلى صياغة تجربتها الخاصة، بانفتاح تامّ على المخزون التراثي العربي أو الشرقي، وعلى النماذج الموسيقية العصرية في مختلف المساحات الثقافية العالمية.
هذه التجربة التي اتكأت بشكل أساسي على الموارد الخاصة، والإنتاج الذاتي وتقنيات التواصل لتخترق الحدود، بدأت تصبح «نمطاً تصعب تسميته». وهذا بحد ذاته إنجاز مرادف للإبداع الشامل، يؤكد في الوقت نفسه أن جذوره تمتد عميقاً في الهوية المحلية والإنسانية، لأنه يخترق فعلاً حدود الطبقة والمنطقة والمذهب. لكنه لا يزال عاجزا عن اختراق احتكارات الإعلام والإنتاج والأداء، إلا نادرا.
مع كل ذلك، وفي انتظار نضوج «الانقلاب الموسيقي – الشمسي»، يمكننا أن نحتفل كل عام، بأن الموسيقى لا تزال حيّة!  

السابق
حسن دياب يجول على المراكز المستحدثة للامتحانات في صور
التالي
إطلاق الطبيب أبو حمد بكفالة 50 مليون ليرة فقط