خطاب معلوف: ثلاث قضايا خطيرة

ما هي القضايا الثقافية الثلاث الخطيرة جداً وذات الدلالات و"النتائج" السياسية التي طرحها أمين معلوف في خطابه أمام الاكاديمية الفرنسية الاسبوع المنصرم؟

مع الاسف لم تهتم الصحافة اللبنانية بالخطاب الطويل جدا والرفيع المستوى الذي ألقاه الكاتب والروائي اللبناني باللغة الفرنسية أمين معلوف في حفل تكريسه عضوا في الأكاديمية الفرنسية. فتبعا لتقاليد الأكاديمية على ما يبدو، يقوم العضو الجديد، فيما هو يقدِّم نفسه، بعرضٍ مفصّلٍ لشخصِ ونتاجِ العضو المتوفّى الذي حل مكانه. في حالة أمين معلوف احتلّ الكرسي 29 في الأكاديمية وهو كرسي الباحث الانتروبولوجي كلود ليفي ستراوس الشهير اساسا بسبب اعماله المبكرة عن القبائل البدائية في غابات الأمازون. وتلاه، ضمن التقليد، ردٌ مطوّلٌ تكريسيٌّ من أحد الأعضاء لحصيلة نتاج القادم الجديد وانجازاته.

لَفَتَتْني في نص أمين معلوف إثارته "الناعمة" والذكية طبعا لثلاث قضايا جريئة وكبيرة بل وفي غاية الخطورة الثقافية، وبعضها جديدٌ تماماً… على الأقل بالنسبة لي، لا سيما القضية الأولى.
فبِحسّ المؤرخ النبيه يلفت نظر اعضاء الأكاديمية المهيبي السمعة العلمية، إلى أن حصار فيينا الشهير على يد قوات السلطان العثماني سليمان القانوني عام 1529، والمنظور إليه تاريخياً على أنه ذروة الهجوم الإسلامي على المسيحية الأوروبية، قد حصل بتشجيع من ملك فرنسا فرنسوا الأول الذي كان مهتماً بإضعاف أخصامه آل هابسبورغ المسيطرين على معظم أوروبا. بل لا يتردد أمين معلوف في القول ان فرنسوا الأول كان يجيب على استفسارات بابا روما المهموم بصدِّ العثمانيين "أعداء المسيحية الرئيسيين" بأنه يرسل سفاراته الى اسطنبول لتأمين تحسين أوضاع مسيحيي الشرق الخاضعين للسلطان العثماني. وكان هذا بنظر أمين معلوف مجرد عذر (alibi).

لست متأكدا أن هذا الجواب مجرد عذر ولربما كان نوعا من تطبيق الملك الفرنسي لمفهومه للمصالح المتبادلة؟ لكن الجديد أن نسمع أن ملكا مسيحيا أساسيا في أوروبا شجّع على أخطر هجوم إسلامي في عمق اوروبا وعلى أبواب أوروبا الغربية منذ التوغل التركي المغولي في أوروبا الشرقية وخصوصا الروسية في القرون الوسطى وبعد ان كان لم يمضِ وقتٌ طويل على طرد الكاثوليكية الاسبانية لمسلمي الأندلس وآخر ملوكهم في غرناطة على أطراف القارة. واذا كان امين معلوف قد "أرّخ" روائياً بشكل ممتع في كتابه "ليون الإفريقي" اللحظات الأخيرة لحصار غرناطة فإن الروائية المصرية رضوى عاشور قد "أرّخت" في ثلاثيّتها الصادرة في جزأين مصيرَ "مسلمي" الأندلس بعد تنصيرهم القسري.

المهم أن أمين معلوف بتسليطه الضوء العارف على موقف فرنسوا الأول في تأييد "حصار فيينا" امام أحد أرفع المنابر الثقافية في العالم ينسف كل تبسيطية الأفكار المسبقة الشائعة عن أحادية الصراع المسيحي الاسلامي ويرغمنا على فتح أفق جديد لهذه المسألة الشديدة الصلة والتأثير في الجانب الثقافي للصراع السياسي الهائل الدائر اليوم ولا سيما بعد أحداث 11 أيلول 2001. فكيف سيتناول مؤرخو القرون المقبلة علاقة الولايات المتحدة الأميركية بالإسلام. هل هو العداء أم التحالف بين الإثنين أم كلاهما معاً وكم سيستحصل "التوظيف" الأميركي الناجح للإسلام السياسي ضد الأعداء "الثالثين" على الاهتمام من مؤرّخي العصور الآتية؟! أتخيّل على طريقته في "ليون الإفريقي" و"سمرقند" أن أمين معلوف أصدر روايةً تاريخية عن هذه العلاقة التحالفية بين السلطان العثماني والملك الفرنسي خلال "حصار فيينا" ثم ربَطَها، كما فعل في "سمرقند"، بأحداث لاحقة في العصر الحديث وهو الروائي الذي يمكن أن يعطي عشرات الصفحات لحدثٍ امتد بضع ساعات فقط مثل وصفه لساعات الخروج الأخيرة من غرناطة فيما يقفز في بضعة سطور خمسمائة عام دفعة واحدة! (لعلّ هذا نقدي له في الكتابين ولكن هذا موضوع آخر).

القضية الثانية التي تحتاج الى نقاش والتي طرحها أمين معلوف بمهارة في خطابه هي رفضه الصريح لربط مظاهر ونتائج العلاقة الثقافية بين لبنان وفرنسا، والتي هو شخصيا احدى محصّلاتها كما أشار، بمجرد المرحلة الاستعمارية الفرنسية أي فترة الانتداب بين عامي 1920 و1946 بل يعتبرها حصيلة قرون (منذ القرن 16) من الجهد المتبادلة التي يريد أن يقول أنها غير كولونيالية. هنا التفكيك بين ما هو كولونيالي وغير كولونيالي عبر حصرِه بالتوسّع العسكري المباشر أمرٌ يستدعي التشكيك بل حتى عدم التسليم. فإذا كان التمدّد الأوروبي الحضاري، كما مثلا في النقاش المصري المصري حول حملة نابوليون بونابرت على مصر التي حصلت قبل نهاية الحرب العالمية الأولى بأكثر من قرن، فإن الفصل بين العسكري والسياسي والإقتصادي والثقافي هو أمرٌ مستحيلٌ بسبب ترابط المعطيات والمصالح الدولية حتى لو احتفظ المستوى الثقافي دائماً بـ"نُبْل" التضحيات الفردية للمستشرقين والرحّالة الكبار ليس الفرنسيين فقط بل كل الأوروبيين. إنما هذا يضعنا في جوهر الإشكالية المهمة التي طرحها كتاب ادوار سعيد الشهير "الاستشراق" والذي تناول فيه تحديدا الاستشراقين الفرنسي والبريطاني مما جعل مؤرخا كبرنارد لويس يأخذ عليه عدم معرفته بالتاريخ "العظيم" للإستشراق الألماني والاسكندنافي والروسي.

القضية الثالثة الخطيرة التي طرحها أمين معلوف في خطابه نسَبَها الى كلود ليفي ستراوس. فبعد رحلة إلى باكستان بتكليف من منظمة "الأونيسكو" عاد ليفي ستراوس، وهو الذي حمّل الغربَ مسؤوليةَ إبادةِ ثقافات الشعوب البدائية، عاد من باكستان، حسب معلوف، ليكتب أن "الإسلام هو غرب الشرق"! (l’islam est l’occident de l’orient).
أيّ اتهامٍ خطير يطلقه ليفي ستراوس! وماذا لو كان صحيحاً نسبياً أو جزئيا؟ أي ان الاسلام أباد ايضا وقبل الغرب ثقافات شعوب بدائية سيطر عليها؟؟؟ وماذا يرتِّب هذا الاتهام من مسؤوليات نقاشية بين النخب المسلمة المعاصرة وبين الآخرين بل بين النخب المسلمة نفسها في حوارها المتجدد العنيف مع نفسها منذ انطلقت الحركة الأصولية الإسلامية في القرن العشرين، في مصر في ثلثه الأول ثم في باكستان في منتصفه ولا سيما في ايران في أواخر السبعينات منه، ولا تزال تتمظهر في العنف الثقافي مع الذات والآخرين، العنف الذي اندلع شيعياً وانفجر سنياً على نطاقٍ واسع ومتحوِّل؟  

السابق
النهار: المطار رهينة وتحريك المخيمات ضد الجيش
التالي
لماذا يهرب حزب الله إلى الأمام؟