عن الهواجس السنية ـ الشيعية

أحدث «الربيع العربي» تحولات تاريخية في المنطقة العربية، أفرزت في الوقت نفسه، حراكاً مذهبياً هو الاخطر منذ قرون طويلة.
وبينما كانت توجّه سابقاً اصابع الاتهام الى الولايات المتحدة، بإثارة الفتن المذهبية في العالم العربي، تحوّلت «الملحقات الأميركية» في المنطقة، اليوم، رأس حربة في مواجهة ما تسمّيه «الخطر الإيراني» الذي بات يتفوق، من وجهة نظرها، على «الخطر الإسرائيلي». وهنا، لا يقتصر «الخطر الإيراني» على طهران وحدها، بل ينسحب على نوري المالكي في العراق والسيد حسن نصرالله في لبنان وخالد مشعل في فلسطين وبشار الأسد في سوريا.
بهذا المعنى، يصبح سعي دول الاعتدال العربي، لتقويض منظومة سياسية ـ اقتصادية ـ عسكرية تشكل خطراً جدياً على إسرائيل، أخطر من دور الادارة الأميركية.
وإذا كانت هذه الدول عاجزة عن المواجهة العسكرية المباشرة، فإنها لا تجد وسيلة للحرب على إيران، إلا من خلال تسعير المناخ المذهبي واتهاماً بأنها دولة «فارسية» و«شيعية» و«طامعة»، في نسخة مكررة للاتهامات التي كانت توجه الى جمال عبد الناصر بأنه «رأس حربة المشروع الشيوعي الملحد في المنطقة» في بداية الستينيات.
يساهم هذا الخطاب في تعزيز دور التيارات التكفيرية وحضورها في عدد من دول المنطقة، وبينها لبنان، ويجد أرضاً خصبة في سوريا الملتهبة، ما يؤدي الى ارتفاع المخاوف من تكرار «السيناريو العراقي»، وصولاً الى تدمير الدولة السورية وتعريض أمن المنطقة بكاملها للخطر، اضافة الى صعود تنظيم «القاعدة» من جديد بعد الضربات القوية التي تعرّض لها في السنوات الماضية..
والحال أن واشنطن المترددة اصلا منذ انطلاق الاحداث في سوريا، لم تبد يوماً انها في وارد الذهاب الى النهاية في معركة اسقاط النظام السوري، بينما تمثلت اولوية بعض حلفائها الخليجيين ومعهم الحليف التركي، في الانخراط جدياً في مشروعهم الفتنوي في المنطقة، انطلاقاً من المسرح السوري.

خط طهران ـ القاهرة

ومن الطبيعي أن يتزامن شروع الإدارة الأميركية في قراءة مغايرة لواقع المنطقة، مع انحسار مشروع الفتنة، حسب أوساط مطلعة على حركة التقارب السني ـ الشيعي.
وفي ظل الحراك السياسي الجديد، تبذل جهود حثيثة للتقارب السني ـ الشيعي، وخاصة على خط طهران ـ القاهرة.
هي ليست المرة الاولى التي يقصد فيها موفدون ايرانيون مرجعية الازهر، اذ ان مصر مثلت على الدوام قطب الرحى على صعيد المرجعية الشرعية السنية في العالم الاسلامي، وهي تستند بذلك الى ما يصفه المصريون بـ«الشخصية المصرية» عبر التاريخ.
كما ان الاسلام المصري، المنفتح، يختلف عما يسمونه «الاسلام الوهابي»، حسب الاوساط المتابعة للتقارب الايراني المصري.
من هنا، فإن «الحوار بين المذاهب» هو أسهل بين القاهرة وطهران عنه بين طهران وتيارات اخرى تتغذى على التطرف والعنف وتنتشر في مناطق التوتر، مثلما تمد نفوذها الى حيث بإمكانها استقطاب المناصرين عبر «المساعدات» المالية والاجتماعية، تحت شعارات الجهاد ضد المحتلين، وبوجه كل من اختلف معها في العقيدة والسياسة..
ويقول مطلعون على التقارب المذهبي اليوم، إن الشعب المصري يرحب بطبيعته بتقارب كهذا، اذ انه يكنّ محبة كبيرة لآل البيت، وهو يحتفظ، على سبيل المثال، بتراث صوفي جعله يتقبل عشرات الجمعيات الصوفية في مصر والتي بلغت 204 حركات.. ويذهب هؤلاء الى القول إن «السلفية المصرية نفسها مختلفة عن نظيراتها في بلدان اخرى» لكونها تجنح نحو السلمية وتعكس طبيعة الشخصية المصرية البسيطة، لكن المعتزة بحضارتها وتراثها.
على انه، في المقابل، ثمة محاولات كثيرة تقوم بها تيارات متشددة نبتت في الخليج وتحاول التغلغل في المجتمع المصري، واستغلال انفتاح هذا المجتمع في مرحلة ما بعد انتصار الثورة المصرية. ويشير المتابعون أنفسهم الى ان تياراً كبيراً كالتيار الوهابي، الذي نجح في التسلل الى مجتمعات اسلامية عربية كثيرة، لم يتمكن من احتلال موقع نفوذ ذا شأن في مصر. ولجأ، في المقابل، الى تقديم الدعم السخي للتيار السلفي المصري، من دون ان يتمكن من فرض نموذجه المعروف بالتشدد حتى على هذا التيار الذي شكل انتصاره مفاجأة كبيرة لجميع متتبعي الانتخابات البرلمانية المصرية الأخيرة.

مرجعية الازهر

يعيد المتابعون للواقع المصري الناشئ، الفضل في تماسك شرائح كبرى في هذا المجتمع أمام ذلك الوافد الغريب الى الاهمية الكبيرة التي تحتفظ بها مرجعية الازهر التي وقفت بوجه مصادرة دورها من اية جهة، خليجية كانت ام اقليمية ام غيرها..
ويشير هؤلاء الى أن العديد من مشايخ الازهر يعتنقون الفكر الصوفي، كما ان شيخ الازهر نفسه، احمد الطيب، كان قد أشاد في مجالس كثيرة بالفكر الصوفي، مثلما حذر، في المقابل، من نشر دعوات التشيّع في مصر.
ويقول مراقبون لأداء مرجعية الازهر إن ثمة تياراً فيها يدفع باتجاه اتخاذ موقف متشدد من المذهب الجعفري والقوى الاقليمية المحسوبة على التشيع. ويطلق هذا التيار الاتهامات المختلفة حول نشر التشيع وإقامة الحسينيات في مصر، الامر الذي يُحرج الطيب، خاصة في ظل «ضغوط» خارجية ذات طابع مذهبي، وذات امكانات مالية هائلة، تسعى للمزايدة مذهبياً على مرجعية الازهر.
في المقابل، تشير مصادر مراقبة للعلاقة الازهرية مع ايران، الى ان لا سبب للحملة الشرسة على ما يقال حول موجات تشييع تغمر البلاد، اذ لا نية ايرانية بنشر المذهب الشيعي في مصر. ذلك ان كسب الأتباع، مهما كان كبيراً، غير ذي معنى اذا خسرت طهران ومعها «حزب الله» عامة الشعب المصري.
وتضيف ان المواطن المصري «لا يحتاج الى نشر التشيع، اذ انه مستعد بفطرته ومحبته لأهل البيت لتقبل هذا التراث، وهو ليس بحاجة لعمل يتخذ الطابع التبشيري، ناهيك عن الأثر السلبي الذي من شأن ذلك ان يتركه لدى أوساط إسلامية كبيرة في مصر وخارجها».
وتقول الأوساط نفسها «إن ذلك سيعمق الخلافات المذهبية في الوقت الذي تحتاج فيه الأمة الاسلامية اكثر من أي وقت مضى للتوحد خلف عنوان فلسطين، بينما في إمكان ايران كسب المؤيدين، ولكن لمصلحة المعركة الكبرى مع اسرائيل».
ويلفت البعض النظر الى ما اعلنه السيد علي الخامنئي خلال «مؤتمر الصحوة الإسلامية» في طهران قبل اشهر، عندما شدّد على الوحدة مطلقاً ابياتاً من الشعر بلغة عربية امام مضيفيه.

«الإخوان» و«حزب الله»

أما بالنسبة إلى العلاقة بين «الاخوان المسلمين» و«حزب الله»، فيبدو ان الحرص مشترك عليها، ويعمل الحزب حثيثا على الارض لتعزيزها، بينما ثمة تيارات «اخوانية» تدفع باتجاه موقف متشدد بوجه ايران. وتعيد الاوساط تشدّد بعض القيادات في «الاخوان» تجاه طهران الى نفوذ اقليمي وجد موطأ قدم له في الحركة مؤخراً، وخاصة بعد سقوط النظام المصري السابق، الا ان تلك التيارات، يضيف هؤلاء، ليست صاحبة النفوذ الأكبر في الحركة، اقله في الوقت الحالي.
ويشير هؤلاء إلى أن ثمة اختلافاً في وجهات النظر داخل الحركة يسقط نفسه على الموضوع السوري بين تيار متشدد وآخر معتدل، وهو الامر نفسه الذي ينطبق على حركات «الاخوان» في العالم العربي، اذ نلحظ مواقف «معتدلة» لدى حركات اخوانية (تحت مسميات مختلفة) في المغرب والجزائر، وبقدر اقل لكن مقبول مع «اخوان» الاردن الذين يحتفظون بموقف حاد بوجه إسرائيل.
على أن جهود منع الفتنة قد حققت خرقاً في الآونة الاخيرة وقد تم الاتفاق على عقد مؤتمر للحوار الاسلامي في الفترة المقبلة في مدينة الاسكندرية، وذلك بحضور قيادات واطراف رسمية وحركية مختلفة، من السنة والشيعة، عرباً وغير عرب، أعطت موافقتها على الحضور إثباتاً لحسن النية تجاه الحوار.
في المقابل، ثمة «هواجس» لدى اطراف «سنية» حول «حركة تشيع» تدعمها إيران في المجتمعات «السنية»، كما ثمة اسئلة تطرحها اوساط اسلامية حول خطاب «حزب الله» «الاستعلائي» في مخاطبة الآخر، مع العلم ان المقاومة في لبنان والسيد حسن نصرالله قد حققا شعبية كبيرة في العالم الإسلامي، ما أثار مخاوف من تغلغل المقاومة «مذهبياً» في المجتمعات السنية، الامر الذي دأب «حزب الله» على نفيه.
ويشير بعض المراقبين الى ان «الإخوان» في مصر لا يهادنون في قضية الصراع مع إسرائيل، الا ان الاولوية تتمثل اليوم في تنظيم الصفوف والشروع في خطاب «اجتماعي ـ اقتصادي» يحاكي تطلعات الشارع المصري، وفي ذلك افادة كبرى لـ«الاخوان» لتعزيز وتمكين حكمهم الجديد في مصر، لكونهم باتوا اللاعب الأكبر والاهم في مصر، قبل أن يتفرّغوا للملفات الإقليمية.

 

السابق
بيروت أغلى مدن الشرق الأوسط
التالي
لأسيـر لا ينـأى بـالنفـس.. صيـداويـاً