العلاّمة الراحل السيد عبد الله الأمين(قده): مؤرِّخ نهضوي

بصفته واحداً من علمائنا الأعلام في زمانه، ومن خلال القيام بدوره المعرفيّ والثقافي، ساهم العلاّمة الراحل السيِّد عبد الله السيِّد عبد الحسين محمود الأمين الحسيني(قده) (توفي عن عمر يناهز ال75 عاما في 15 ايار الفائت)، مساهمة لافتة في إحياء جانب تأسيسيّ وجوهريّ من تراث جبل عامل (جنوب لبنان) النهضوي العلمي والأدبي والثقافي. في سِفره الموسوعي الضخم الجليل والقيِّم، الذي أصدره في العام 2009 وفي طبعة موسَّعة وموثقة تحت عنوان: "منارة جبل عامل – بلدة شقراء" (عن دار المحجّة البيضاء – بيروت).
ونحن، إذْ نقدِّم اليوم عرضاً لهذا الكتاب الذي هو – وبحرفيّة عنوانه الفرعيّ – "مدخلُ لدراسة النهضة العلميّة والأدبية العاملية"، ليس للتذكير فقط بأهميّة مضمونه العميق، بل وفاءً منَّا أيضاً للذكرى العطِرة لكاتبه الراحل الكبير(قده)، هذا الرجل الذي غادرنا – محمود السِّيرة إلى جوار ربّه سبحانه، منذ أيام قلائل.
يُعدُّ هذا الكتاب الذي جاء في ثلاثة مجلّدات من القطع الكبير وبمصادره وملاحقه والذي يشكل إضافة نوعيّة في البحث في التراث العاملي – مرجعاً تاريخياً لا بدَّ لكل المهتمين بمعرفة تاريخ جبل عامل الفذّ والعريق سواء أكانوا قراءً أو باحثين أو مؤرِّخين، من العودة إليه والتبحُّر في محتوياته، للإلمام بالأحوال العلمية والأدبية العاملية النهضوية للعصرين الذي يؤرِّخ لهما بعمق وأصالة واللَّذان يشكلان معاً جزءاً لا يتجزأ من التراثين العاملي خصوصاً واللبناني عموماً، وهما: عصر السيِّد أبو الحسن موسى الحسيني (1138 – 1194هـ/ 1725 – 1780م) وعصر السيِّد علي محمود الأمين الحسيني (1276 – 1328هـ/ 1859 – 1910م). فهذا الكتاب هو "توسعةٌ وتوثيق لرسالة السيِّد عبد الله الأدبية والعلمية التي قدمها لكلية الفقه – النجف الأشرف".

نهضة تاريخية
وهو – وعلى قول المؤلِّف في المقدمة: "ليس بكتاب تاريخ يسرد الأحداث ويؤرِّخ لها وليس بكتاب جغرافيا أو ديموغرافيا يسلّط الأضواء على تراثٍ مهدوراً وعطاءٍ ضائع، ومن هنا فهو يحدّد الأمكنة ويموضع السكان، أيضاً هو ليس بكتاب لغةٍ أو فقه استدلاليّ يُرجع الفروع إلى الأصول، حتى أنه ليس بكتاب أدبُ يعنى بالشؤون الأدبية والشعرية ولكنه لا يستنكر لهذه المعطيات العلمية والأدبية جميعها، إنما هو يؤرِّخ لحركةٍ علمية وأدبية شعرية في بلدةٍ من بلاد جبل عامل – جنوب لبنان، شاركت عصر النهضة بما أطلعته من علماء وأدباء في عصر رجلين من رجالها الأفذاذ الذين شاركوا في جعل بلدة شقراء (منارة جبل عامل).

رائدان
فكان الرائد الأول لهذه النهضة العاملية والمؤسِّس هو العلاّمة المرجع السيد أبو الحسن موسى الحسيني صاحب أول حوزة علمية في شقراء التي كانت تضم أكثر من أربعمائة طالب عِلْم ورجل دينٍ… وهكذا كان شأن أحد أحفاده العلماء الذي اتّبع نهجه وسار على خطاه وجدَّد بناء مدرسته (الحوزة العلمية) وطارت شهرته في الآفاق ألا وهو السيد علي محمود الأمين الحسيني صاحب المدرسة العلوية العلمية في شقراء. هذا، ويغطّي متن هذا الكتاب بفصوله الستّة التأريخية للحياة العلمية والأدبية لبلدة شقراء (مع احتواء الفصل السادس على كلمة لسماحة العلامة السيد محمد حسن الأمين حول مفهوم الأدب العاملي)، يغطّي الفترة الممتدة من بداية إنشاء الحوزة الأولى إلى أوائل عام 1970 – 1391هـ.

شخصيات نخبوية
وذلك من خلال سرده ما يُعَدُّ سيرة جماعية لأكثر من أربعين شخصية نخبويّة من آل المين، معدودة ومشهودة في مجالاتها الحياتية والدينية والثقافية بما فيها المؤلِّف نفسه السيد عبد الله حفيد السيد علي محمود الأمين، فهم يشكلون طائفة مميزة من كبار العلماء العاملين المتنورين، جُلُّهم مجتهدون مراجع في العلوم الدينية خرّيجوا النجف الأشرف وبينهم من انتهت إليه الرئاسة الدينية والدنيويّة معاً فكان قطب عصره وزمانه دون منازع، فمن خلال شرح عميق وافٍ ومُسهب أحياناً نتعرف إلى ما امتازوا به، كل بمفرده، من مكانة علمية وأدبية واجتماعية وسياسية رفيعة ومرموقة، وما اتّصفت به نُهوجهم الدينية الإصلاحية التجديدية ومواقفهم التاريخية التي كان لها مجتمعةً ذلك التأثير الفاعل في الحياة العاملية العامة على الصعد كافة.

عصران مشرقان
وعليه، فإن هذا الكتاب ينقل إلينا سمات الحياة الثقافية للعصرين المذكورين قيْد البحث، مستعرضاً الأحوال والأطوار المتعاقبة للحوزة العلمية بأدوارها التاريخية الثلاث، مع التعريف بأشهر طلابها في كل دور وما جرى لها من وقائع وتقلَّب عليها من أحوال. ذلك فإن طابع هذا السِّفر، هو طابعٌ تسجيلي توثيقي أُفردت فيه لكل شخصية تمّ الحديث عنها مساحة مقتضاة، جمعت إلى سيرتها الذاتية ثبْتاً بمؤلفاتها العلمية والأدبية وإنجازاتها البارزة، مع نماذج متعددة الأغراض من أشعارها وكتاباتها، إضافة إلى إشعارٍ قيلتْ فيها (مدحاً أو رثاءً)، مثّلت عصرها أصدق تمثيل في الشكل والمضمون، فأعطى كل ذلك فكرة إجمالية واضحة عنها. لذلك فقد احتلّت المادة الأدبية (القصائد الشعرية) في هذا الكتاب، الجزء الأكبر منه، ومع ذلك فقد جاءت بمثابة تكملة هامة أساسية للمادة التاريخية بتوثيقها للأحداث وشهودها عليها. وبقي أن نقول إن هذا السِّفر الذي زادت صفحاته على المائة بعد الألف، وقاربت مصادره ومراجعه الأربعين بعد المائة، والذي ضمَّ العشرات من الوثائق والصور والمخطوطات التي أُرفقت بكل جزء على حدة، يمتاز برصده للملامح الجوهرية التي طبعتْ عصرين مشرقين من التاريخ المعنوي والعريق لجبل عامل (العصر التأسيسي والعصر التجديدي الذي ما زال مستمراً إلى أيامنا الحالية).

السيد عبد الله الأمين كتاب التراب العاملي
لماذا يترك السيد جسده؟ الكأس الذي احتساه، والكيس الذي اختبأ في داخله لسنين عجاف… والسنبل الغض حفاف قبره، يملأ الحب من حُصالة الحقل..
أكثر الكروم كرماً تلك التي يسكنها السكون.. ويُلمُّ عن أكتافها صمت الصيف في أكفّ التين ومرايا العنب. في الليل يزهر التراب فراش عشب، ويقف القمر الراهب عند شبابيك النجوم في "ديركيفا"… قرية اصطفتها السماء لزينة المصباح والصباح.
دثره برد ورد الروض الذي شاع عندما شمّه التراب تلك الليلة والنزلة.. وفوقه غيام تشيع جنازة أوّلها ثلم وآخرها نجم. لأنّ صمتك أبلغ من خطب الدعاة، اقتفيك آثراً في حصيف الحرف، أنزل من سلة ميزان تاجر النعوش والأكفان ورخام الأغنياء، وأمشي حفافاً خلف المشيّعيين الذين حملوك حلماً في كوابيس السياسة، وزرعوك حيث وقفوا علامة في طريق العودة إلى مغاراتهم ومنازل من تماثيل الجاهلية الجديدة.
التبست أثواب السواد عليّ، فما عرفت من المشيّع إلى مثواه الأول الأخير..! ووجدت السيد يمرّ لواذاً من طريق غير مأهولة بزوّار القبر، ولا أحد معه ليمسك بطرف خيط الكفن المملّع بأشواك السلطات المحلية. ربما تشابهت الوجوه في وجهي، فلم أتصفح جيداً أقفية العابرين حدود الجسد وتضاريس الجنازة.. وحاولت أن أستقرأ لغات الموت، فلم أفقه شيئاً لأنها أعجمية باردة لا حياة فيها.. لذا تركت الباب مفتوحاً، وخرجت من صفوف الجماعة المتلبسة لباس الصوف في الصيف ليس عن نيّة صوفية وإنما نتيجة التباس مناخي واحتباس سياسي يؤدي إلى وضع غشية في عين.
كنا معه تحت ظلّ القيظ نجمع عباءته ذات صيف ونتقاسم صمته، ونتوزع فيه كما شاع فينا.
 ولد العلاّمة السيد عبد الله الأمين في 11 آذار 1937 بعد وفاة والده السيد عبد الحسين محمود الأمين بأربعة أشهر فلم يعرف أباه الذي كان شاعراً وأديباً ونجماً سياسياً لامعاً في زمنه. (مجلة شؤون جنوبية عدد 64 آب 2007).
وهذا اليتم كان له عظيم أثر في حياة سيّدنا الراحل، فقد عاش يتلمّس سيرة أبيه الفذ وملامح شخصيته أنّى وقعت حواسه ومداركه، إن مشافهة على ألسنة من عاشوه من الأقارب والأصدقاء وبعض أهالي "شقرا" و"ديركيفا" وغيرها، أو من خلال ما وُجد في بطون كتب تاريخ جبل عامل التي حفلت بذكر اسم السيد عبد الحسين محمود الأمين في شتى المناسبات السياسية خاصة في مؤتمرات الأعيان والزعماء التي كانت تعقد في المرحلة المفصلية التاريخية 1918 – 1920 مع انتهاء الحرب العالمية الأولى وبداية الحكم الفرنسي للبنان.
وقد جمع العلاّمة الراحل السيد عبد الله الأمين شعر أبيه ونشره في كتابه "شقرا منارة جبل عامل" كما نشر لغيره من نتاج أدباء وشعراء "شقراء وعلمائها الأبرار". ولقد ظلّ الشوق "للأب الغائب" يتَّقد في القلب المرهف لابنه السيد عبد الله الذي بدا أن الشعور باليُتم لاحقه حتى وفاته، وما إن شبّ وكبر، حتى بات ابن أبيه عن حق وجدارة، ففي الأجواء "النجفية" حيث درس العلوم الدينية في العراق، تذوّق السيد عبد الله حلاوة الأدب وأجاد حِرفة الشعر وكانت له قصائد غرّة في مناسبات محلية بعضها نشر وبعضها لم ينشر فبقت على صفحات الورق وفي أقصوصات مطويّة في أدراج مكتبه. وهذه القصيدة وجدت بعد وفاته بأيام في العشرين من الشهر الماضي، وكانت في جيب جبّته الكريمة. قصيدة أسماها: "مناجاة الروح والدي" يودّع فيها الحياة بعد أن شعر بدنو أجله ويستعدّ لملاقاة وجه ربّه وملاقاة وجه أبيه الحبيب التي بقيت لوعة فقده حرقة أبديّة في وجدانه.
مناجاة لروح والدي
إني نظمت قريض الشعر يا أبتي كيما أناجيك هذا بعض ما أجدُ
لا أعلم الغيب هل ألقاك في نعم إلى جوار كريمٍ غافرٍ أفدُ
أو قل أراك غضيض الطرف منسرح في جنة الله حيث الحور والولدُ
هذي يدي وفدت فأمدد إليّ يدا بيضاء تبهت من عادوا ومن جحدوا
فإنك الفارس المطعام من سغب والجمع يعلم والأقلام تتحدُ
وأنك الشاعر المرهوب جانبه في حومة الشعر لا يرقى له أحدُ
سل عنه شقرا ومن فيها وعاملةً تنبئك عنه وعن أعماله النجدُ
فذُّ تمرس بالآفات وهو فتًى إذا تعقد أمر حلت العقدُ
إذا تجمع أهل الرأي كان له رأي ينيف على الآراء ينفردُ
يسعى إلى الخير في حلٍّ ومرتحل بالحبّ يزهو وبالإيمان يتّقدُ
كانت له من عتاق الخيل سابقة "زرقاء" تسعى إلى عليائه تخدُ
هذا هو الإرث إمّا رحت تذكره والمرء ذكراه لا مال ولا ولدُ
تلك السلالة أعلى الله سدرتها أئمة الحق أن قاموا وأن قعدوا
آت إليك بقلب وإلهٍ دنف شأن المحبين إذ بانوا وإذ بعدوا

السيد عبد الله الأمين
السيد عبد الله السيد عبد الحسين محمود الأمين الحسيني. وُلِد في قرية ديركيفا – قضاء صور جنوب لبنان – جبل عامل عام 1934 م. أتم دراسته الابتدائية في شقراء والمتوسطة والثانوية في جويا وصور (الكلية الجعفرية). ارتحل إلى النجف الأشرف لطلب العلم في أوائل عام 1961. عاد إلى وطنه في أوائل عام 1971. تخرّج من كلية الفقه في النجف الأشرف وحصل على إجازة منها في اللغة العربية والعلوم الإسلامية (بكالوريوس) عام 1388 هـ – 1968 م. درس على علماء الحوزة العلمية وأساتذتها أثناء وبعد تخرّجه من الكلية في النجف الأشرف. له عدة دراسات فقهية وإسلامية وأبحاث مخطوطة ومطبوعة. طبعت له رسالة في الأدب العربي – عرض وتلخيص لتاريخ الحركة الفكرية والأدبية في (شقراء) – صفحة من تاريخ الفكر العاملي. نشرت له مقالات علمية وأدبية ودينية في عدة مجلاّت عربية. له نشاطات اجتماعية وتربوية وعلمية وهو عضو إداري في جمعية علماء الدين العاملية. أسس في (شقراء) – مدرسة الزهراء – ازدهرت لمدة عشرين عاماً حتى مجيء الاحتلال الإسرائيلي قضى عليها سنة 1990 م. بنى في بلدته دير كيفا نادياً حسينياً ومستوصفاً ومكتبة عامة. له كتاب "منارة جبل عامل – بلدة شقراء" (ثلاثة أجزاء) توسعة وتوثيق – لرسالته الأدبية والعلمية التي قدمها لكلية الفقه – النجف الأشرف.


في ذكرى أسبوع العلامة السيد عبد الله الأمين في "ديركيفا" ألقى الأستاذ حسن معتوق قصيده رثى بها الراحل الجليل وجاء فيها فيها:
كم ذا اكابد في الزمان جروحا واكاد اقضي غربة ونزوحا
يا صاحِ لو أنبأتَنا بترحلٍ كيما نطيل وداعنا المجروحا
لكنما آثرتَ ألّا نلتقي حتى نعانق مدمعًا مسفوحا
ما كان يقصيك الممات وان تغب جسما طهورا وسّدوه صفيحا
فلأنتَ ثاوٍ في القلوب موسدٌ طي الفؤاد شققت فيه ضريحا
عاد التراب الى التراب مشيّعًا وسكنتَ في ظل الحشاشة روحا
ولئن ثويت بدير كيفا لم تزل شقراء تُنمي ذروة وسفوحا
ولئن ملكتَ بهذه بطنَ الثرى فبتلك عانقتَ الفضاء فسيحا
اني افتقدت بك المكارم زانها خُلقٌ كمُنْهَلِّ الغمام صريحا
 

السابق
اللجان النيابية المشتركة اقرت تثبيت العمال المياومين
التالي
اللجان المشتركة تقر مبدأ التثبيت وفق المباراة المحصورة على ان يتقدم اليها المياومون كل حسب اختصاصه والشهادات التي يحملونها