الصراع على سورية يفكّك الدولة والجيش

بين الولايات المتحدة وانحيازها التاريخي الثابت لسلطة الاحتلال الإسرائيلي للأرض الفلسطينية، وروسيا العائدة إلى أبشع ما في سوفياتيّتها بدعم ستالينية النظام السوري في عدوانه اليومي على شعبه، لا عزاء للعرب وقد غدوا ثانيةً وقود الحرب الباردة المتجددة بكامل سخونتها. فعلت أميركا كل ما يلزم، قبل ستة عقود، لضمان خسارة العرب فلسطين، وتفعل روسيا حالياً أمام أنظارهم كل ما تستطيع لاستدراج سورية إلى جحيم الحرب الأهلية وسيناريوات التقسيم والتفتيت.
بدل أن يرصد النظام السوري أي فرصة تُتاح لإنقاذ البلد من «المؤامرة» التي لا ينفك يحكي عنها، إذا كان حريصاً فعلاً على سورية وشعبها وجيشها ودولتها، تراه يراهن على «لعبة الأمم» وعلى «بازار» واسع تفتحه روسيا آملاً بالاستمرار، وكأن سورية تقزّمت لتُختزَل بهذا النظام ولا تستحق الوجود من دونه. والواقع أن شيئاً لا يضمن لهذا النظام أن تدور اللعبة على النحو الذي يرومه. فالروس صاروا مثله يعتمدون على حصيلة الضحايا وهول المجازر لاستثارة المزايدة، وكلما واجههم تحدٍ يعرضون جثته لإشعال المزاد والأسعار.

رغم أن المحنة هزّت النظام في صميمه، وأظهرت له أن «إنجازات» خمسة عقود من المناورات والصفقات والمغامرات في الإقليم كانت سلسلة من خداع الذات والأخطاء والأوهام، إلا أنه لم يفهم ولم يحاول أن يفهم أن الحلقة المفقودة في كل هذه «الأمجاد» هي شعب سورية. وإذ بذل كل جهد وابتلع كل الإهانات في مهادنة العدو الإسرائيلي، وبالغ في التجبّر على اللبنانيين والفلسطينيين والعراقيين وتخييرهم بين أن يكونوا أعداء أو عملاء أو أتباعاً، فإنه انتهى إلى إخراج كل ترسانته لمواجهة مَن اعتبرهم دائماً «العدو الأول»، «الحقيقي»: الشعب. وفوق ذلك يطمح، بل يحلم، بأن يهزمه ليواصل حكمه، أو يترك له سورية مجرد أرض محروقة.

كان المؤتمر الأخير لـ «منظمة شنغهاي للتعاون» في بكين فرصة لتعميق محور السلبية التي باتت تربط بين روسيا والصين، برصيد «فيتو» مزدوج استخدم مرتين في مجلس الأمن، ويظنّه أصحابه صدّاً للنفوذ الأميركي – الغربي فيما تجده أمم العالم كافة حضّاً وتشجيعاً على قتل المدنيين في سورية. وإذ اقترب هذا الثنائي الدولي إلى مواقف إيران ضد «الشيطان الأكبر» الأميركي وضد «الاستكبار الغربي» فإنه يطلب ضمّها إلى مؤتمر دولي بشأن سورية. لكن ما الذي يبرر وجود إيران إلى الطاولة على افتراض قبول الجميع بها وانتظام المؤتمر فعلاً، أهي حدودها المشتركة مع سورية، أم عضويتها الافتراضية في الجامعة العربية، أم عضويتها في مجلس الأمن، أم تحالفها مع نظام دمشق، أم «شبّيحتها» المشاركون في قتل السوريين، أم لأن الروس والصينيين صاروا يعتبرونها «دولة عظمى» ذات نفوذ في الإقليم بحكم سيطرتها على العراق وسطوتها في لبنان وإدارتها للانقسام الفلسطيني من خلال غزة؟ معظم هذه المبررات غير صحيح أو وهمي أو آني، وقد اختلس في ظروف غير منطقية وسيزول بزوالها.
كان يمكن اقتراح هذا المؤتمر الدولي أن يكون خبراً جيداً لو أنه «من أجل سورية»، لكنه عملياً لتدبير شؤون الأطراف المتحفزة لاقتسام سورية. فهو يرمي، إذا قدّر له أن ينعقد، إلى أحد خيارين: إما تعجيز التوصل إلى أي حل آخر غير إبقاء النظام السوري أو في أفضل الأحوال فرض نظام يكون نسخة معدّلة منه. وإما دفع الابتزاز إلى حدوده القصوى بوضع مطالب روسيا والصين وإيران ومتعلّقاتها بدول أخرى في سلّة واحدة بحثاً عن صفقة كبرى متكاملة يصبح الشأن السوري فيها ثانوياً وموضع مساومة. قد يبدو الخيار الآخر خيالياً أو مغرياً لكنه ينطوي بدوره على تعجيز، لأنه يوسّع الإطار ليطرح تسوية مركّبة ومترامية الأطراف بين حلف الأطلسي و»منظمة شنغهاي» وريثة حلف وارسو. وعلى ذلك يجب ألا تُعلّق آمال كبيرة على أي لقاء قريب بين الرئيسين الأميركي والروسي، ولا على المفاوضات النووية بين مجموعة الدول الـ 5+1. فالروس رفعوا السقف عالياً وأصبحت تنازلات إيران النووية في عهدتهم مقابل العقوبات المفروضة عليها، كما أنهم والصينيين يحتاجون إلى إيران إذ يستعدّون لإعادة ترتيب الأوضاع في آسيا الوسطى بعد الانسحاب الأميركي – الغربي من أفغانستان.

كيف يمكن والحال هذه التوصل إلى تسوية قريبة تحقن الدماء وتؤمن الاستقرار في سورية. الواقع أن الدول الغربية تعاملت مع الأزمة حتى الآن بإظهار الاهتمام الأخلاقي والإنساني بأوضاع الشعب السوري، لكنها استهلكته وتوشك على استنفاده، ولا تستطيع المضي قدماً من دون استراتيجية واضحة تتعلق بسورية وكذلك بمجمل الشرق الأوسط. مرةً أخرى يظهر الخلل الذي خلّفه الغرب بانقياده وراء إسرائيل في الإحجام عن توقيع اتفاق سلام مع سورية والتلكؤ المتعنت في حل القضية الفلسطينية. ولعل مردّ صمت إسرائيل طوال الأزمة إلى إدراكها هذا الخلل وعدم لفت النظر إليه، فلو اندلعت الانتفاضة الشعبية السورية في ظل سلام مع إسرائيل لكان موقف النظام مختلفاً إقليمياً وحتى دولياً. فجأةً، يوم الأحد الماضي، خرج بنيامين نتانياهو وشاؤول موفاز عن صمتهما ليدينا المجازر في سورية، وشيمون بيريز ليتمنى انتصار الشعب السوري، وفجأةً بدأت إسرائيل تطالب بـ «تدخل عسكري خارجي» وكأنها استشعرت وجوب التدخل في «بازار» المعالجة الدولية الجارية للأزمة لعل هناك ما يمكن أن تكسبه أكثر من كونها ضمنت هدوء الجبهات مع «دول الطوق» العربية لفترة طويلة آتية.

تؤكد الدول الغربية يومياً «عدم التدخل» في سورية رغم اقتناعها بضرورته لكن حماية المدنيين ووقف اراقة الدماء لا يمكن أن يشكلا أهدافاً حقيقية وموجبة للتدخل، خصوصاً أن هذه الدول لم يكن لها وجود على الساحة السورية. ففي مقابل عجزها الواضح تشهد أن روسيا وإيران تتدخلان وتجاريان النظام السوري في استهزائه بالاعتبارات الأخلاقية. أكثر من ذلك، انهما تتوقعان من الغرب وحلفائه العرب أن يدفعوا ثمن تسهيلهما «حلاً» تشترطان أن يكون لمصلحتهما ويضمن مصالحهما إما بالإبقاء على النظام أو بأي صيغة تناسبهما لـ «ما بعده». لكن ما الذي يدفع الدول الغربية، في هذه الحال، إلى شراء تسوية أو إلى تقديم تنازلات للحصول عليها، بل مقابل ماذا؟ لا شيء، هذا يعني فقط أن شروط «الصفقة» غير متكافئة، بل غير متوافرة. فلو تعلق الأمر بـ «أمن إسرائيل» لكانت الدول الغربية بذلت كل المستطاع لضمانه، لكن روسيا والصين لم تقتربا من هذا الخط الأحمر. ولا تجد الدول الغربية وإسرائيل موجباً للتدخل طالما أن الحاصل في سورية – بما فيه التدخل الروسي والإيراني – يصب في مصلحتها، وكل ما عليها أن تفعله هو الضغط لعدم تمكين النظام من سحق الانتفاضة. أما الخيار الأفضل الذي ارتسم لديها، ولم تسعَ إليه تجديداً، فهو ترك سورية تحترب وتحترق وتتفكك بأيدي النظام وبمساهمة غبية من الروس والإيرانيين.  

السابق
المقاومة غالبة بقوّة المنطق لا السلاح
التالي
في الكفاح الأسدي