هذه ليست طرابلس!

أزير رصاصٍ يخترق ضوضاء المدينة المفعمة بالحياة، التي تنحصر بالتوقيت الزمني اليومي. يبدأ النهار هنا مع صلاة الصبح وينتهي بعد العشاء. طلقاتٌ متقطعة، لا نعرف الى الآن مصدرها وسبب اطلاقها. لا شيء في شريط الأخبار السريعة على التلفزيون. أحد الاصدقاء راسلني عبر هاتفي قائلاً: "اشتباكات بيروت إمتدّت إلى شارع سوريا".

أوراق الروزنامة تأخذك إلى السابع من أيار 2008، كنت حينها في زيارة قصيرة الى منزل العائلة المزروع في شوارع طرابلس التي عشت فيها عقدين أو أقل، فحفظت شوارعها القديمة وخاناتها وأسواقها ومناطقها المرميّة في شكل عشوائي من دون تنظيم، ففيها المناطق ذات الطابع الأثري، ومنها ذات الطابع المخمليّ فيما معظمها ذو ذات طابع "مزرٍ"، ولا سيما ان غالبية سكان هذه المناطق والأحياء يقبعون تحت خط الفقر.

طرابلس التي نشأت فيها، ليست طرابلس التي زرتها قبل أشهر. القديمة لا تشبه الجديدة، ولا سيما ان وشاح التطرف والإرهاب طغى عليها بمساهمة من الإعلام الذي صوّر طرابلس وأهلها على هذه الصورة. في البيئة الطرابلسية يجد التطرف والارهاب ملعباً واسعاً لتصرفاتهما، فما يقوم به عدد من الغرباء الذين يستحلّون المدينة ويسمون انفسهم أهلها، يدلّ على صوابية هذه النظرية. هؤلاء لا يرون من طرابلس سوى مرتع لإرهابهم، ووكر لتجمعاتهم، فمع غياب أسس العيش الكريم، وانتشار البطالة بالتوازي مع تدني المستوى المعيشي، تنتشر الخلايا المتطرفة كالطاعون في الشوارع الطرابلسية، وما عزز ذلك الخطاب الطائفي الذي يتفنن في إلقائه مشايخ المنطقة متى سنحت لهم الفرصة في اعتلاء المنابر، بعدما سبقهم السياسيون اليها في 2008.

قصة باب التبانة وجبل محسن، الصندوق البريدي السياسي، ليست وليدة اليوم، إنما تعود إلى لحظة اغتيال خليل العكاوي "أبو عربي" زعيم باب التبانة عام 1986، والذي نفذه النظام السوري بمؤازرة من عدد من أفراد الحزب العربي الديموقراطي الذي كان يترأسه آنذاك علي عيد. ومذذاك والمتاريس موجودة في شارع سوريا، متاريس معنويّة كالقنبلة الموقوتة لا يعرف أحد متى تنفجر.

في الشهرين الماضيين شهدت منطقة التبانة وجبل محسن أعنف المعارك وأشرسها، سقط خلالها العشرات من أبناء المنطقة الذين عاشوا بعضهم مع بعض، إلا ان الانقسام السياسي والرسائل البريدية كانت خطاً فاصلاً بين مصيرهم. لم أتمكن من زيارة العائلة طوال المدة الماضية، إلا ان الاخبار كانت تصلني في شكل سريع. قضى دوي القذائف على حلمي وأحلام الكثيرين من أبناء طرابلس ان يروا مدينتهم منزوعة السلاح، خالية من الخلافات المسلحة. مدينة تلتفت الى حياتها اليومية، وتصخب بالحياة المتواضعة. في طرابلس، لم يعد ثمة مكان لأحلام الصغار، فهؤلاء حتى لا يستطيعون النوم من شدّة ضراوة المعارك. كثر هم أولئك الشباب الذين أعرفهم، عايشتهم فترة وجودي في طرابلس، هم الآن خارج المدينة، موزّعون كالاحلام بين بيروت وفرنسا وأميركا وإيطاليا، حملوا أحلامهم التي لم تتسع لها رقعة العيش البسيط في طرابلس ورحلوا، علّهم يستطيعون ان يعودواً بفضلٍ ما على مدينتهم، او بشهادة مصادق عليها من إحدى الدول الأوروبية، تزيد مخزون مثقفي المدينة.

في نشرات الأخبار والموجز والملاحق، تتساقط الآمال التي علّقتها على هذه المدينة. أصوات القصف، رصاصات القناص القاتلة، تكبيرات المساجد، خطابات التحريض، كل تشارك في المعارك التي اعتقدنا عام 2008 انها انتهت، إلا أننا بتنا اليوم مقتنعين بأن هذه المعركة هي الجولة الأولى من سلسلة معارك تنتظر المدينة، لا سيما بعد شلال الدم الذي شهدته المنطقة والتحريض الطائفي الذي كان كفيلاً في الآونة الأخيرة بإبقاء الجبهات مشتعلة.
طرابلس التي أحلم، بعيدة من طرابلس اليوم، ساحة رشيد كرامي التي كانت ساحة لأحد أهم رموز الاستقلال في لبنان، تحولت ساحة لاعتصام متطرفين يحاولون العودة بطرابلس إلى القرون الوسطى. طرابلس التي أحلم لا تعرف التعصّب والعدائية والقتل. طرابلس التي أعرف تصدح فيها الموسيقى والشعر والحبّ والأفراح. طرابلس التي أعرف يضرب العشاق فيها موعداً لهم في الساحات العامة والحدائق. طرابلس التي أعشق هي تلك المنطقة المتناقضة في تركيبتها، المؤمنة بوجودية الخالق، المنفتحة على كل الأديان، المضيافة لجميع الزوار، والمناصرة لقضايا العروبة. طرابلس التي أحبّ، هي طرابلس العلم والعلماء، وليست طرابلس قندهار.  

السابق
الحمصي عاتب على الإعلام!
التالي
الأحدب: المشكلة في طرابلس إقليمية