عبث الحوار

أي حوار هو بديل للصراع، لكنه أيضاً تعبير عن موازين قوى ترتسم على أرض الواقع، وتجعل من الاشتباك عملا انتحاريا جماعيا، او على الأقل مغامرة خطرة في المواقع والمصالح.
الفوارق كبيرة بين جلسة الحوار الوطني الذي يستأنف اليوم في قصر بعبدا، وبين الجلسة الأولى التي عقدت في ربيع العام 2006. لكن القاسم المشترك الأهم هو أن العامل السوري كان الضاغط في اتجاه ذلك اللقاء العزيز بين الفرقاء اللبنانيين: قبل ست سنوات أجمعت دول الأرض قاطبة على أن لبنان ذاهب حتما الى حرب أهلية جديدة، او بالتحديد فتنة مذهبية جديدة، إذا لم يتم جره الى طاولة حوار ما، تنزع الشرارات المتطايرة بين من يقول وداعاً سوريا وبين من يردد شكرًا سوريا. كان لا بد في حينه من اختراع عملية سياسية تسد الفراغ الذي خلفه خروج سوريا من لبنان، ولو من دون جدول أعمال.

كان الحوار الوطني هو الاختراع الأمثل الذي جاءت فكرته الاولى من نيويورك وواشنطن، بعدما تبين ان صناديق الاقتراع وتوزيع الحصص الحكومية غير كافيين لتهدئة الشارع الذي كان ولا يزال يعيش على شفير الفتنة المذهبية، وقد اقترب منها اكثر من مرة خلال السنوات الست الماضية، وها هو اليوم يجد نفسه يراها بالعين المجردة.. نتيجة الزلزال الذي يضرب سوريا ويتخذ شكلا مذهبيا لا لبس فيه، ولا يمكن تمويهه على أي لبناني لأي طائفة او مذهب انتمى.
حوار اليوم ليس لسد اي فراغ محدد، بل لمنع الفوضى السورية من عبور الحدود اللبنانية. مشكلته أنه لا ينعقد بقوة دفع خارجية كبرى، بل بناء على نصيحة سعودية وقطرية عابرة، وبناء على توصية عربية ودولية عامة، مرفقة بالإشارة الى ان العالم الذي يواجه معضلة سورية بالغة الخطورة لا يريد حدثا لبنانيا يصرف انتباهه او يعرقل بحثه الحرج الآن عن مخرج من تلك المعضلة: الحوار بهذا المعنى هو تعبير عن الحاجة الى التزام اللبنانيين بالحد الأقصى من الهدوء والسكينة، في الوقت الذي بدأ فيه البحث الجدي في مختلف العواصم الكبرى عن طبيعة المرحلة الانتقالية في سوريا ومقدماتها وشروط نجاحها.

هو مطلب صعب على جميع اللبنانيين من دون استثناء. لكنه ليس مستحيلا. حوار اليوم في قصر بعبدا يترك الانطباع بأن سياسة الحياد او ما يسمى بالنأي بالنفس عما يجري في سوريا استنفدت غرضها، ولا بد من العثور على بديل ملائم يواكب المرحلة الانتقالية السورية.. ولا يلغي الحاجة الماسة الى الالتزام بوضع قانون جديد للانتخاب، يسمح بتنظيم الانتخابات في موعدها، او حتى في موعد مبكر عن الربيع المقبل، بحيث تسهم في احتواء توتر الشارع وتستوعب غضبه وانقسامه العميق.
عدا ذلك يظل حوار بعبدا اليوم عبثا، وجدلا عقيما حول عناوين لا تأخذ في الاعتبار اللحظة السورية الخطرة، التي تفرض حالة استنفار لبنانية شاملة لم يسبق لها مثيل منذ زمن بعيد.  

السابق
مقتل وزير الأمن الداخلي الكيني
التالي
جدار المطلة يكتمل.. ومناورة في المزارع