كيف ينظر أطراف ثلاثي الأكثرية إلى استنقاذ الحكومة لنفسها ولطاولة الحوار؟

المحيطون برئيس مجلس النواب نبيه بري لا يرون قطعاً ان ثمة فصلاً ما بين استنقاذ الحكومة لنفسها اخيراً، وبعد لأي، عبر اقرارها حزمة الاجراءات المالية التي أرضت كل مكوناتها، وبين الدعوة الى طاولة الحوار، التي باتت في حكم المؤكد أنها ستنصب صبيحة الاثنين المقبل في قصر بعبدا بمن حضر، وبين الجهود المبذولة بغية ضبط الوضع في طرابلس والحؤول دون عودة المدينة الى قبضة الفلتان والفوضى الأمنية.
فالمحاور الثلاثة، هي في عرف هؤلاء، وجوه متعددة لمسألة واحدة مؤداها ان الاكثرية الحاكمة ايقنت، ولو متأخرة، ان عليها المبادرة الى فعل ما يعيد ثقتها بنفسها اولاً، ومن ثم يستعيد ثقة الجمهور العريض بها، وتجعل في كل ذلك ركيزتها لتنطلق الى تداعيات الحدث السوري على الداخل اللبناني الذي يهدد الى حد كبير بكسر ظهر الوضع اللبناني، الهش أصلاً .
ولا ريب في أن الحاجة الى مثل هذا الحراك الرسمي قد تعززت أكثر لدى المعنيين في اعقاب حوادث عاصمة الشمال، وما تلاها من حوادث متفرعة عنها، امتدت حتى العاصمة بيروت وبلغت البقاع، اذ ان هذه المستجدات الدراماتيكية جعلت المعنيين، وفي مقدمهم رئيس الحكومة نجيب ميقاتي، يقتنعون اكثر من كل وقت مضى، بأن النهج الذي سلكوه في العام الاول لاندلاع الحوادث في سوريا، وهو سياسة ترك حبل الامور على غاربه، بحيث يكون المجال متاحاً والحراك مباحاً امام المتعاطفين مع النظام في سوريا، كما امام المتضامنين مع معارضيه والمستعدين، لان يفتحوا مناطقهم وبيوتهم لهم، لم يعد مجدياً او قادرا على النأي بالساحة اللبنانية عن نتائج الحدث السوري وتداعياته.
ولم يعد خافياً أنه، بوحي من هذه السياسة الملتبسة حيال الحدث السوري المتفاقم، لجأت الحكومة الى نوع من السلوك اقرب ما يكون من تصريف الاعمال بالحد الادنى، اكثر ما يكون من حكم فعلي مستعد لمواجهة ظروف ومستجدات استثنائية، دراماتيكية تنطوي على مخاطر كبرى.
وعليه، ولأن الحكومة اياها تعرّضت على اساس انها حكومة الضرورة والحاجة التي يريد لها الجميع البقاء ولو في حالتها القاهرة والعاجزة وغير المبادرة، وافرطت في الاستسلام لواقع الحال، ولقناعة ضمنية فحواها أنه ليس في الامكان اكثر مما كان، وفي نهاية المطاف ان قوتها هي في ضعفها وثوابتها.
وظل هذا السلوك قائما حتى أتت حوادث طرابلس والشمال، فرسمت في احيان كثيرة مشهداً ارعب الجميع، لا سيما بعد ظاهرة فلتان المسلحين وانتشار السلاح وظاهرة تحدت الجيش نفسه والسعي الحثيث لاخراجه من المعادلة او جعله شاهد زور.
ولقد بات معلوماً ان اكثر المتفاجئين بهول المشهد الشمالي وليالي الشمال الحزينة كان الرئيس ميقاتي نفسه، اذ وفق المحيطين به بعدما عاين الامور على ارض مدينته استشعر بأن عليه المبادرة الى فعل أمر عاجل، حتى لا يجد في ساعة آتية ولا ريب، بأنه ربما خرج حتى من معادلة مدينته. ومع ان شركاءه في الحكومة كانوا حذروه سراً وعلانية من حقبة سياسة التغاضي او التعامي وسياسة اللاحزم، التي كان يتبعها، فانهم استجابوا في خاتمة المطاف لرغبته في الولوج معه في عملية معقدة لاستنقاذ الوضع واعادة تعويم الحكومة والمحافظة على الاكثرية، من خلال الاتفاق على سلة "التفاهمات" الاخيرة.
ولأن هذه السلة رباعية، فالواضح أن كل طرف من الاكثرية له فيها حصته التي ترضيه وتعيد اليه الاعتبار وتعترف ضمناً بشرعية مطالبه. وحده "حزب الله" لم يكن له مغنم او مكسب مباشر، ولكن "جائزته" الكبرى، وفق دوائر القرار فيه هي أن الحكومة حزمت امرها مجددا وتجرأت على اتخاذ قرار بمواجهة الطامعين بها او الذين ارادوا ان يجعلوها في موقع مثال العاجز والمقامر الذي يمكن استهدافه سياسياً واعلامياً ساعة يشاء ان يرفع وتيرة المعارضة لديه. خصوصاً أن "مادة" الهجوم متوافرة وحاضرة.
هل ثمة "تنازلات" قدمت لميقاتي لكي يجدد شباب حكومته، خصوصاً وقد هدد في جلستها ما قبل الاخيرة باعتراض بالغ السلبية عبر تجميد الدعوة الى اجتماعها؟
الامر مصلحة مشتركة لكل الاطراف المشاركة في الحكومة، ولا يشذ عن هذه القاعدة رئيس جبهة النضال الوطني النائب وليد جنبلاط نفسه، لا سيما وقد ابلغ من يعنيهم الامر صراحة انه لن يسير قدماً الى اي توجه يرتجى منه اسقاط الحكومة، وأنه ماضٍ الى طاولة الحوار الوطني بقلب وعقل منفتحين، انطلاقاً من أن هذه الطاولة ليست ترفاً او للصورة فقط، بل هي حاجة وضرورة للوضع برمته.
بالطبع لا تكتم مصادر "ثلاثي" الاكثرية امام اعادة بعث الحياة بشرايين العمل الحكومي شعوراً فحواه انها ليست المرة الاولى التي تقدم لنفسها ولميقاتي "هدية" كبرى فلم يعد خافياً ان جهود هذا الثلاثي كان لها في السابق فضل تجاوز الحكومة لمطبات وعقبات عدة، لعل أبرزها عقبة تمويل المحكمة، ثم عقبة تجديد بروتوكولها، لذا فإن في أوساط هذا الثلاثي من يسأل هل سيكون "الاستنقاذ" الجديد للحكومة حافزاً جديداً لرئيسها لكي يستثمر هذه الجرعة الجديدة القوية المعطاة لحكومته، وبالتالي يتصرف على اساس انها صاحبة دور أكبر من دور حكومة تصريف الاعمال وعدم الحزم والجزم ازاء الملمات الكبرى؟
لهذا السؤال ما يبرره، لدى الاوساط اياها، خصوصاً بعدما سرت فور الاعلان عن سلة التفاهمات لاستنقاذ الحكومة، تساؤلات عن "مدى صلاحية" هذا التفاهم الجديد، ومتى تنتهي فعاليته، انطلاقاً من فكرة انه رتب على عجل، فقط للحيلولة دون أن تنعى الحكومة نفسها.
وإذا كان "الثلاثي" الأكثري اعتبر انه سلّف ميقاتي وسهل له أمر حكمه تكراراً، فإنه بتلبيته العاجلة والفورية لدعوة الرئيس سليمان الى طاولة الحوار، يقدم، وفق ما يعتقد ضمناً، انه يقدم لسليمان خدمة جلّى.
الاكيد ان بعض المحيطين بالرئيس بري يعتبرون انه هو الأب الشرعي لهذه الدعوة، عندما وجه الدعوة الى السفير السعودي علي عسيري الى عين التينة وابلغه بعزمه الدفع في اتجاه احياء طاولة الحوار الوطني في قصر الرئاسة الاولى، ثم تعمد ان يفصح عن هذه الدعوة بعدما غادر العسيري مقر الرئاسة الثانية، إلا ان ذلك، على بلاغته، لا يعني ان "حزب الله" شديد الحماسة للذهاب الى طاولة يعي تماماً انها، شاء أم أبى، ستعيد التذكير بقضية سلاحه وستعيد هذا السلاح الى دائرة الضوء، مشيرة اليه على انه "اس" الازمة الوطنية، ومع ذلك، ولان "حزب الله" يعرف كيف يتكيف مع المستجدات الكبرى فإنه بادر عبر لسان أمينه العام السيد حسن نصرالله الى اسباغ تأييده غير المشروط على الحوار لكنه ابتدع نهجاً من شأنه أن يبعد الحوار عن المسألة الأثيرة لديه، وهي مسألة السلاح، وليأخذه الى عالم أكثر إثارة للجدل والسجال، عالم الدعوة الى مؤتمر تأسيسي بهدف ارساء عقد سياسي جديد.
ومع ان هذه الدعوة سبق لسيد بكركي ان طرق أبوابها، فإنها أخذت على يد نصر الله حيزاً اوسع من السجال والجدال.
وبمعنى آخر حقق الحزب خلفه غباراً كثيفاً اثير حول أنه لدعوة امينه العام هدفاً اساسياً، وهو فتح الحوار على آفاق ممتدة تتصل بمسألة السعي لتأسيس وطني جديد.
والدعوة في ذاتها، ربما في وجدان قادة الحزب، تهدف الى ان تبقى جزءاً من الرصيد السياسي في البلاد حتى ان وجدت الآن من يتصدى لها، بل ويرذلها، تحت حجة انها دعوة لارساء فكرة المثالثة التي طالما انكرها الحزب مشيراً الى انها انتاج فرنسي ليس إلا.
وفي كل الأحوال وضعت مسألة استنقاذ الحكومة لنفسها، وطاولة الحوار الوطني بمن حضر المشهد السياسي اللبناني أمام منعطف جديد سيفرض نفسه إلى غير مسمى.
وسواء كان الحوار عملية عابرة بغية خفض منسوب الاحتقان والتوتر، كما يراه البعض، أم فتحت ابوابه لينتج شيئاً مختلفاً هذه المرة هو اضعف الايمان، فلا شك في ان في اوساط ثلاثي الاكثرية من يرى في الحدثين (اي استنقاذ الحكومة والحوار) وجهين لعملة واحدة، هو ان ثمة فرصة لهدنة ايجابية، من شأنها فرض بقاء الحكومة على الحلفاء قبل الخصوم، ومن شأنها أيضاً التقاط الأنفاس لمعرفة ما تخبئه الاسابيع القليلة المقبلة من وقائع في المنطقة، هي بالطبع ستترك انعكاسات على الساحة اللبنانية.  

السابق
غسان تويني: الذي كتب «نهاره» بحبر من نور
التالي
تبرئة الذمّة