قالوا «حوار» لتأسيس دولة!!!

هل ضاق دستور الطائف بأهله؟ هل يهدف الحوار إلى تأسيس الدولة العلمانية أم دولة فيديرالية، أم بناء دولة الحق؟ دولة لا يكون إلى جانبها دولة رديفة ولا قوانين جائرة ولا يكون فيها فساد أو مفسدون… أم أنّ الحوار المطلوب هو بديل عن الحوار الغائب بين الموالاة والمعارضة لإبلاغها أنّها أمام خيارات متعدّدة:

حرب تندلع في لبنان بشكل أو بآخر، أو نقل الصراع الدائر في سوريا إلى الساحة اللبنانية، أو التهديد بعدم إجراء الانتخابات في ظلّ استمرار الأحداث الأمنية المتنقلة المتوقفة والمتجددة، أو إجراء انتخابات في ظلّ الشكوك التي تُثار حول إمكان تزوير نتائجها.

ألم يصدر قرار يتيح نقل النفوس بخلاف ما قرّره في هذا الصدد مجلس الوزراء؟ أو ربّما يريد الحزب التذكير بأنّه هو من يقود الدولة بسائر أجهزتها ومؤسّساتها، لا سيّما الأمنية والقضائية منها… كلّ ذلك في ظلّ تسييب المرافق العامّة والانهيار الاقتصادي والتردّي الإداري والسياسي في معالجة مشاكل المواطنين وتلبية حاجاتهم.

بعضهم يعتقد أنّ الدعوة إلى الحوار جاءت باعتبار أنّ "حزب الله" يشعر بأنّ الخناق بدأ يقترب من نظام الأسد، وأنّ ذلك سينعكس سلباً عليه، ممّا يجعله يقوم بخطوة استباقية يقايض فيها سلاحه بصلاحيّات دستورية تضمن له المثالثة أو ما يزيد عنها، وما يبرّر ذلك تجربة سابقة في هذا الصدد، إذ إنّ فريقاً آخر كان يحمل السلاح، وقايضه من خلال توظيف مقاتليه في إدارات الدولة، وهم بحدود العشرة آلاف، إضافة إلى حصوله على مكتسبات أخرى عبر إقرار الأنظمة التي تنظّم عمل المؤسّسات الدستورية التي يشغلها بما يتلاءم ومصالحه السياسية، إضافة إلى مكتسبات مالية من خلال إنشاء المجالس المالية التابعة له.

لكن يجب ألّا يغيب عن ذهننا أنّ من دعا إلى طاولة الحوار، هو فخامة رئيس الجمهورية الذي يحاول الدفاع عن الدستور وعن الوطن، في مقابل حكومة هزيلة عاجزة حتى عن حفظ الأمن أو الحفاظ على ما تبقّى من مؤسّسات الدولة، لا سيّما في ضوء تأثّر لبنان بما تحاول سوريا أن تجرّه إليه من اعتداء بالقصف على القرى المتاخمة أو الخطف والقتل المستمرّ للمواطنين اللبنانيين، أو محاولة افتعال الصدامات العسكرية بواسطة ممثليها في جبل محسن وفي الطريق الجديدة وعين المريسة…

العامل الإيجابي الوحيد في كلّ ما يحصل أنّه عندما تشتدّ الأزمة يضحي الحلّ قريب المنال، وها إنّ المؤشّرات الدولية باتت مؤكّدة أنّ روسيا لا ترفض حلّاً سياسيّاً في سوريا من دون بقاء الأسد في السلطة، وذلك بما يشبه ما حصل في الأزمة اليمنية وما نتج عنها من حلول غلب فيها الطابع السياسي التفاوضي متجاوزاً الصراع العسكري الدائر هناك، إذ إنّ المجازر المرتكبة أخيراً من نظام الأسد في الحولة والقبير في ريف حماه لم يعد أحد قادراً على الدفاع عن فظاعتها.

وهذا ما أكّده الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند في ظلّ تنامي الحديث عن عدم السماح بإفلات مرتكبي جرائم الإبادة والجرائم ضدّ الإنسانية من العقاب، وفقاً لما أكّده الأمين العام للأمم المتحدة.

وبالعودة إلى جدوى الحوار والغاية من البحث عن تأسيس دولة، فإنّنا نسأل هنا: هل سبق لأتباع ولاية الفقيه أن أسّسوا دولة أم محوراً؟ وهل هناك من نموذج أفضل من العراق للدلالة على ذلك، وهل الإصلاح في البحرين يشكّل انتصاراً للديموقراطية أم للمذهبية بما يتجاوز تقاليد وأعراف هذه البلاد وسبب نشأة الدولة؟

وبالنسبة إلى لبنان، فإنّنا ومنذ إقرار اتّفاق الطائف، لم نسمع من هؤلاء إلّا الكلام عن دولة لا تشبه الدولة اللبنانية ولا شأن لها بالدستور اللبناني، بل اقتراحات تتناقض مع وثيقة الوفاق الوطني، وكأنّهم ذاهبون إلى طائف جديد، فيما الجميع عاد منه، حتى إنّنا لم نتمكّن حتى تاريخه من تطبيق كامل بنوده، إضافة إلى التسرّع الدائم في طرح أفكار فيها التفاف على الدستور كإلغاء الطائفية السياسية من دون اقتراح آلية لذلك، بما يتناقض مع ممارساتهم الطائفية.

وقد جاء طرح هذه الشعارات بخلفية القضاء على الركائز الأساسية لاتّفاق الطائف، وأهمّها المناصفة والعيش المشترك، وفي هذا ضرب لكلّ مقوّمات الدولة من خلال إنشاء دولة رديفة أقوى من الدولة، وهيمنة على المؤسّسات الدستورية إداريّاً وسياسيّاً وعسكريّاً.

وأكثر من ذلك، هل يمكن لمن تمرّس على الأداء غير المؤسّساتي وغير الديموقراطي أن يسهم في بناء دولة أم مزرعة؟ وإذا نجح بذلك، فإنّها ستكون بالتأكيد دولة صورية يستمرّ قيام الدولة الرديفة إلى جانبها، دولة لا تشبه لبنان الدولة التي نشأت لأسباب غير تلك الأسباب التي يسعى "حزب الله" إلى بناء دولته على أساسها.

وبعد هذا الحوار، نرجو ألّا يسقط القناع فيسقط معه لبنان التاريخ والميثاق والدستور والطائف والدولة، حيث لن يكون هناك من مكان لمذكّرة التفاهم التي وقّعها الحزب مع "التيّار الوطني الحر" في مار مخايل، وهي لم تؤتِ بأيّ ثمار، بل ستتّسع المساحة لدولة يريدها الحزب على صورته ومثاله، فيما انصهرت شعوبٌ وجماعاتٌ في محاولة لبناء دولة منذ ما يقارب المئة عام ولم تزل، وهم لن يتخلّوا عن هذا الطموح مهما حاول البعض أن يكون هو الدولة البديلة، لأنّ سلاحه كلّه ليس أقوى من نضالات الأجداد ودماء الشهداء وثورة الأحرار، وفي كلّ صراع مماثل نعرف مسار التاريخ أين يتّجه.  

السابق
الأسد يحرق آخر مراكبه
التالي
واشنطن تقود خطة تصعيد جديدة ضد سورية لتعزيز موقعها التفاوضي