ماذا بين البطريرك والسيد؟

قامت الدنيا ولمّا تقعد بعد على دعوة السيد حسن نصر الله الى «مؤتمر وطني تأسيسي». ما هي ردود الفعل على الدعوة في بكركي التي ما فتئ سيّدها منذ انتخابه يكرّر الدعوة إلى «عقد وطني جديد

يحلو لأحد المحنّكين في تجارب السياسة اللبنانية التندر بالقول: زمن الوصاية السورية، كانت دمشق تكيل بمكيالين في علاقتها مع الزعماء المسلمين والمسيحيين، لصالح المسيحي، على عكس ما يُعتقد. فإذا «أخطأ» الأخير حيالها مرة، تفهّمته. وإذا أخطأ ثانية غضّت الطرف. وإذا أخطأ عاشرة… حاولت استيعابه. أما إذا أخطأ المسلم مرّة أولى، قطعت… على الأقل ورقته. بعد انتهاء الوصاية السورية، يبدو أن النهج نفسه تبنته الوصاية الآذارية. وإلا فما الذي يفسر الردود المختلفة في العنف والوتيرة واللهجة، حيال كل من البطريرك بشارة الراعي والسيد حسن نصرالله، في موضوع دعوتهما المشتركة إلى مشروع حوار وطني ما؟

تقفز الملاحظة إلى الأذهان وسط حملة الانتقادات التي طاولت دعوة الأمين العام لحزب الله إلى ما سماه «مؤتمراً وطنياً تأسيسياً»، للبحث في عمق قضايا الوطن والسعي إلى إيجاد حلول جذرية لها. قامت قيامة المنتقدين. كلام من العيار الثقيل: انقلاب على الميثاق والدستور والطائف، استغلال لوهج السلاح لفرض هيمنة أحادية، سعي إلى استبدال المثالثة بالمناصفة… كل ذلك والسيد لم يقل بعد سوى: تعوا نحكي سوا!

أما في المقلب الآخر، فتبدأ القصة منذ انتخاب الراعي سيداً لبكركي منتصف آذار 2011. بين كل خطاب وعظة وتصريح، يمرر غبطته لازمة «عقد وطني جديد»، حتى قرر تأكيد جدية الطرح والدعوة إلى فتح هذا الملف. فاختار مناسبة مزدوجة الدلالة: عيد الاستقلال، وفي حضور أهل قصور بعبدا والسرايا وساحة النجمة. جاءت اللحظة في العشاء السنوي للمجلس الماروني في 20 تشرين الثاني الماضي. لم تكن ثمة كلمة مقررة للراعي. في اللحظة الأخيرة طلب من المنظمين ذلك، ليعلن الرسالة: «نتطلع في هذا الظرف العصيب (…) إلى رجالات دولة يخطون خطوة شجاعة لوضع عقد إجتماعي جديد، على أساس الميثاق الوطني، قوامه صيغة إجرائية تعزز ديموقراطية ميثاقية في مجتمعنا التعددي». وفيما بعض المنظّمين مهتم بتطبيق قانون منع التدخين في القاعة يومها، أو بتوعك زوجة أحد المسؤولين، أكمل البطريرك: «من شأن هذا العقد الاجتماعي المتجدد أن يستكمل بناء الدولة المدنية التي تفصل بين الدين والدولة، وتحترم الله وجميع الاديان، وتحمي الحرية والعدالة والمساواة والكرامة الانسانية والحقوق الطبيعية للأفراد والجماعات، دولة تحافظ على مكانها ودورها في حوار الحضارات والاديان، وتتضامن مع الصالح العربي العام، وتلتزم قضايا السلام والعدالة العالميين، وكم نتمنى أن تعلن حيادها كدولة، لا تدخل في سياسة المحاور».
وأكمل الراعي كرازته: في 7 أيار الماضي في مونتريال: «ندعو الى وقفة وطنية نسميها عقداً اجتماعياً. ففي العام 1943، طرح اللبنانيون عقداً اجتماعياً اسمه الميثاق الوطني، ميثاق العيش معاً والذي كان قائما على «لاءين»: لا للشرق ولا للغرب، اي لا للتبعية لأي بلد. وبعد 70 سنة تقريباً يوجد عندنا اكثر من لبنان، وأصبح كل ينادي بلبنانه ويريد لبنان على قياسه. آن الآوان لنعمل من اجل عقد اجتماعي جديد (…)». وفي 12 ايار من تورونتو: «دعوة السياسيين الى الحوار من أجل عقد وطني جديد انطلاقا من ميثاق 1943 (…)». وفي 27 أيار مع العودة إلى بكركي، وفي أحد العنصرة بالذات: المطلوب «عقد اجتماعي وطني جديد»، ينطلق من «الميثاق الوطني» (…).

لماذا كل هذا التكرار؟ الأسباب معروفة ومكرّرة، يقول العارفون بمناخات الصرح. لا بل هو استمرار لخطاب بكركي التاريخي منذ أكثر من عقدين. فالبطريرك صفير كان رائد الدعوة إلى ما سُمّي يومها «سلة التعديلات الدستورية». حتى أن سلطة الوصاية كانت قد كرست معادلة مفادها التفاوض مع بكركي أو محاولة استدراجها إلى صفقة من هذا النوع، عند كل «دعسة» ترتكبها على الدستور. سنة 1995، وسنة 1998، وسنة 2004. ولما أطلق البطريرك صفير ذراع الصرح السياسية، تحت عنوان «لقاء قرنة شهوان»، ظلت بيانات ذلك التجمع ووثائقه تضج بالكلام عن إعادة النظر في الدستور، «بما لا يمس الشق الميثاقي من الطائف».
لماذا هذا الكلام؟ لأنه بالوقائع والحقائق، ثابت أن اتفاق الطائف أقر في ظروف استثنائية. حتى أن صفير نفسه وصفه مراراً باتفاق الضرورة والحد الأدنى ووقف الحروب العبثية. ما يعني ذلك من عدم تكافؤ في ظروف إقراره، وعدم توازن في إرادات الذين أقروه.

بعد الوقائع، جاءت التجارب لتؤكد أن الاتفاق أقر على قياس وصاية خارجية ما. إذا ما لُزّم لضابط خارجي، أكان في عنجر أو عوكر، يصير شغالاً. ولحظة غياب الضابط، يتحول معطَّلاً ومعطِّلاً. بدليل عدم التوازن بين مؤسساته الدستورية، وبدليل الثغر والفجوات في تنظيم آليات عمل الدولة بموجبه: لا مهل زمنية محددة، لا مسؤوليات ولا صلاحيات… كل ذلك ظهّرته الأعوام السبعة الماضية، وأكثر.
من هنا المدخل، يقول العارفون بمناخات الصرح وسيده، إلى البحث في نقاط التقاطع بين طرح البطريرك ودعوة السيد، بما ينسجم مع مواقف كل اللبنانيين الآخرين. المطلوب إذاً حماية المكتسبات الميثاقية لاتفاق الطائف. هذه المكتسبات واضحة وجلية ومحددة، هي مسلّمات نهائية لا يمكن تغيير حرف فيها، ويمكن تعدادها، وفق فلسفة الطائف نفسه، كالآتي:
أولاً، التسوية التاريخية حول مفهومي السيادة والشراكة. وهي التسوية التي جاء بها الطائف في إطار معادلة التزامن بين الانسحابات العسكرية والإصلاحات الدستورية. وهي مسلّمة باتت من البديهيات. إذ لا يمكن لأي لبناني، أو لأي داع إلى «عقد وطني جديد» أو «مؤتمر تأسيسي»، أن يفكر بالتنازل مجدداً عن السيادة، أو في العودة إلى نظام الجمهورية الأولى.
ثانياً، التسوية التاريخية حول مفهومي عروبة الدولة، ونهائية الكيان. ذلك أن الطائف استوحى من كل أدبيات الوثائق التفاوضية السابقة، هذه المعادلة الجوهرية بين الوجدانين المسيحي والمسلم. فزاوجَ بينهما، حين أعطى للأول ضمانة نهائية الكيان، وضمن للثاني عروبة الانتماء والهوية. علماً أن التدقيق التاريخي في هذه التسوية، يظهر كم أن المسألة كانت ملتبسة على الطرفين. ذلك أن نهائية الكيان التي «طمأنت» المسيحيين اللبنانيين سنة 1989، إنما هي اختراع مسلم، منذ قالت بها وثيقة حركة «أمل» مع السيد موسى الصدر سنة 1974، وصولاً إلى بيان الثوابت الإسلامية في أيلول 1983. وفي المقابل، عروبة لبنان، التي «طمأنت» المسلمين نهاية القرن العشرين، ليست غير اختراع مسيحي منذ عصر النهضة أواخر القرن التاسع عشر، في وجه زمن التتريك وعسف السلطنة.
ثالثاً، التسوية التاريخية بين «الحكومة المركزية القوية» التي قال بها الطائف، وبين «اللامركزية الإدارية الموسعة، على مستوى القضاء فما دون»، التي أكد عليها الاتفاق نفسه أيضاً. مع ما للطرحين من محاولة جواب على حساسيتين متقابلتين وميلين متنازعين تاريخياً.
هذه التسويات التاريخية، هي صلب الشق الميثاقي من الطائف، كما يعتبر العارفون بمناخات بكركي. وهي منصهرة ضمن وثيقة الوفاق الوطني، في ظل مبدأ تأسيسي أول، هو ما نصت عليه الفقرة الأخيرة من مقدمة الوثيقة والدستور، عن أنه «لا شرعية لأي سلطة تناقض ميثاق العيش المشترك». أما التفسير العملي والحسابي الجلي الوحيد لهذا «الميثاق»، فهو تلك العبارة البسيطة في المادة 24 من الدستور «التساوي بين المسيحيين والمسلمين».
هذا ما لا يمكن العودة عنه، ولا حتى التفكير بأي مراجعة حوله أو إعادة نظر فيه: السيادة والشراكة، والعروبة والنهائية، وقوة الدولة ولامركزية إدارتها، في ظل ميثاق المناصفة والتساوي. كيف نطور هذا الميثاق من هنا؟ هل نرسخه عبر سد ثغر تعدديته وفجوات توافقيته؟ أو نكمل دورته الأساسية صوب الدولة المدنية الكاملة؟ هذه المسائل وسواها يجب أن تكون عرضة للنقاش، سعياً إلى عقد وطني جديد، منبثق من مؤتمر تأسيسي.
اهتمام وإيجابية وجدية وتفاؤل… تلك أجواء الصرح حيال أي طرح وطني جدي. فحيث مجد لبنان قد أُعطي، لا خوف من الكلمات. الخوف الوحيد هو على الكلمات في مواجهة الرصاص، وعلى النيات من أن تصبح مجرد كلمات…  

السابق
لبنان يدّعي على الجيش السوري بتهمة قتل مصوّر الجديد
التالي
الاخبار: 7 مليارات دولار تعيد للحكومة ودّها