نغمة الحداثة؟

لا تعدم ظواهر صوتية في العالم العربي فرصة لإبراز مفاتن تهافت منطقها، وخصوصاً عند الملمّات الكبيرات.. أسماء كبيرة تكشف مكامنها من دون تلوين أو تزويق، وتنخرط في الدقّ على دفوف أنظمة الطغيان والمجازر، وترقص على أنغام مقولاتها وسياساتها وإجرامها، ثم تغلّف ارتكابها ذاك بشعارات فخمة تبدأ بالحداثة ولا تنتهي بادّعاء التحذير من أصوليات وسلفيات وما شابه من عدّة كلام تليق بحملة الخناجر والسكاكين أكثر مما تليق بالأقلام والأشعار والموسيقى والعصافير والأدب ومقوّمات الإبداع أيّاً كانت.

ظواهر صوتية، عبّأت الوجدان العربي على مدى عقود بطنين تفرّدها، وبادعاء جموحها نحو الأنسنة وأفعال العيش والحياة.. ترتكب في هذه الأيام مجازر أخلاقية "ثقافية" توازي، بل تبزّ، بل تقهر أكثر من مجازر الجلاوزة، سفّاك الدم، حملة السكاكين والسواطير، قتلة الأطفال والنساء والعجّز والمساكين والأبرياء، الفاتكين بكل عروة رابطة بين الناس والأوطان ورفعة الخلق ونواميس الشرف ومكارم العروبة وسحرها وتراثها وثرائها وآدابها وأخلاقها وإنسانيتها!

تدبّ تلك الظواهر الصوت "محذّرة" من بدائل أنظمة قائمة باعتبارها أكثر شراً وشيطنة! بل باعتبارها صنواً أكيداً لتفلّت معايير الحداثة باتجاه العودة إلى الخلف.. آخذة سقطاً من الكلام كمبرّر لكلامها وخلاصاتها، وسقطاً من الأداء كشهادة إلى يقينها وأحكامها. ولا تكتفي بذلك التهافت، بل تخرج لتزيّن ذلك باستعارات من التاريخ الأوروبي وثوراته وشعاراته الخالدة، فلا تفعل في هذا، إلاّ ما يفعله الخيّاط الفاشل الذي ينسج ثوباً فضفاضاً على قامة هزيلة، ويغلّف التنك بورق الذهب!
.. العودة السلبية إلى الذات وهويتها، لا تُغطى عند الأفاضل والأكارم والشجعان والمهجوسين بالتاريخ والحداثة والعولمة، باستعادة جمل نبيلة ومتفرقة وإنزالها على قتلة وديكتاتوريين وطغاة ووحوش تدّعي صلة بالبشر والأنسنة!

ولا ينفع الاكثار من الطنين واللغو في تغطية "نغمة" الصوت الأساسية: نغمة الغرضية والبدائية، وإثرة الانساب والانتساب، ولا كثيراً في تغطية نوازع الذات الأمّارة بالانتهازية والوصولية.. تماماً مثلما لا تنفع ادعاءات الفرادة والابداع في تغطية السقطات الكبيرات الموازية والمساوية "لابداع" العسس والقتلة والذبيحة والشبيحة!
بدلاً من إدانة المجزرة في الحولة وإبداء مشاعر الخزي والعار، يتحدّث بطل الحداثة الأسدية، عن مخاطر الثورات العربية واتجاهات ثوّارها. ثم يروّج لكذبة أكبر من الجائزة الموهومة، من أنّه ضحيّة مستهدفة فيما هو ضدّ الجاني والجلاّد!  

السابق
ماذا بعد… الموت؟
التالي
سورية ـ الدولة والأممُ ـ القبائل