الجبل يتوارث الدفاع عن النفس

جدران مقهى «الأخرس» منخورة بالرصاص. مقهى متواضع لا يفصله عن «خط نار» التبانة سوى مبنى و«شارع سوريا». مكان فقير يشبه كل شيء آخر في جبل محسن. يستريح على كراسيه أبناء الجبل عند كل مساء. داخله رجال يُشاركون اليوم في معارك «الدفاع عن النفس». معارك ورثوها عن آباء قُتل بعضهم فيها. في جبل محسن آباء أكلوا نار الحرب، قديماً، واليوم لهم في المعارك أبناء «يضرسون»، لكن، في المقابل، ما من مقاتل يلوم والده هنا، إذ يعلمون أنهم، كما الآباء، يدفعون ضريبة الجغرافيا و«لعنة المذهبية».

يتذكر عبد اللطيف والده، الذي رحل في أحداث ثمانينيات القرن الماضي. كان من أبرز متعهدي الباطون في الشمال. أبو عادل، العلوي، تعهّد بناء مسجد الصديق في طرابلس، الذي يرتاده السنّة لأداء الصلاة. اليوم يسمع الابن عبر مكبرات الصوت، من المسجد ذاته، شتائم بحق مذهبه.
عبد اللطيف يحمل السلاح دفاعاً عن «الخط الوطني». يرفض أن يكون قتاله مذهبياً، إذ «لا خلاف دينياً في منطقتنا، بالأصل، لكن الطرف الآخر يصرّ على جعله كذلك، لأنه يكسبه شارعاً بات مشحوناً بالمذهبية». تتفلت من الابن عبارات، بين الحين والآخر، تشي بما في داخله من مرارة «حرمان مذهبي». يتحدث عن والده الذي اشترى ذات يوم سينما في منطقة أبي سمرا، كانت تعود لمشايخ من آل قباني، لكنه سرعان ما باعها بسبب عدم ارتياد الناس لها. عبد اللطيف، أو «جامع جامع» كما ينادونه عبر اللاسلكي، يعلم أنه قد يلاقي مصير والده، لكن «الخارج من صلبي سيكمل المشوار بعدي». إلى متى تبقى الحال لديكم كذلك، أما آن لكم أن تتعبوا؟ لا ينفي الرجل أن يكون قد أصيب بالتعب، لكن «ماذا تفعل حيال شخص يكرهك لمجرد أنك أنت. بذلنا كل ما لدينا من ود، لكن الطرف الآخر لا يريد الود.. لهذا صرنا إذا رزق أحدنا بطفل تكون هديته بندقية».

يدخل أبو سليمان، الرجل الستيني، على خط الحديث، مستذكراً محسن عيد، الذي كان بمثابة «قائد الأركان» في معارك الثمانينيات. لمحسن صيت واسع في جبل محسن، اليوم يتذكرونه جيداً، فهو كان عقبة في وجه الخصوم، كانوا «إذا سمعوا صوته عبر اللاسلكي يرتعدون خوفاً». محسن عيد يرقد اليوم في المقبرة المحاذية لمسجد الزهراء، وملامح ضريحه، إلى جانب أضرحة شهداء المعارك، تشي بشيء من الأهمية التي كان عليها. «أسطورة» أخرى مرّت في تاريخ الجبل.
تتغير ملامح وجه أبو سليمان، المقاتل القديم، الذي نجا من الموت مرّات عدة، وهو يستذكر رفاقاً له قضوا بين يديه قبل أكثر من 20 عاماً. يومها «كان الطرف الآخر على الجبهة جماعة حركة التوحيد، ومعهم أمن الـ 17 التابع لياسر عرفات. اليوم، اختلفت الأمور. التوحيد ما عادوا يطلقون النار علينا». المحارب القديم لا يقول إن «التوحيد» بات حليفاً. في نفسه ما يدفعه إلى الاكتفاء بالإشارة إلى أنهم «ما عادوا يطلقون النار». لقد حفرت المعارك في قلب الكهل، الذي ما عاد اليوم يقوى على القتال، أشياء سوداوية سترافقه ما دام حيّاً.

يلتفت أبو سليمان ناحية شاب من آل حبابة، ليدلنا عليه. والد الأخير كان رفيقاً له وقضى أيضاً في المعارك القديمة. ابن محسن حبابة، المعروف اليوم باسم أبو دياب، يسير على خطى والده مقاتلاً. أبو دياب شاب، يشارك كل شباب لبنان همومهم، يريد عملاً لائقاً وأمناً لعائلته، قبل أن تطول لائحة الشكاوى الاجتماعية. هذا في الحالات العادية، حيث تجده غالباً بلباس العمل، لكنه عند بداية المعركة يحمل البندقية، سريعاً، لـ «الدفاع عن النفس». يأخذنا إلى منزله الذي مزق الرصاص أثاثه. يدلنا على الإنيرغا العالقة بحائط الشرفة من دون أن تنفجر. الفقر يأكل منزل أبو دياب، بكل ما فيه، لكنه «في ساعة الدم يصبح كل هذا خلفنا، لكي ندافع، مضطرين، عن أنفسنا».

كثيرون في الجبل «يدافعون عن أنفسهم» بعدما دافع آباؤهم قبلاً، لكن لوالد ذو الفقار فضة قصة مختلفة. هذه المرّة رحل الولد وبقي الوالد يقاتل. قبل 4 سنوات، بعيد أحداث 7 أيار في بيروت وجبل لبنان، راح الرصاص «ينصب على جبل محسن انتقاماً لما حل بالفريق الآخر في بيروت». يتحدّث الوالد عن ابنه ذو الفقار الذي «دفع ثمن «فشة خلق» الفريق الخاسر في بيروت… يومها شعرنا بأن الجميع تخلى عنا، بمن فيهم الحلفاء». آنذاك، أصيب الابن فحمله والده سريعاً إلى المستشفى في زغرتا، تحت القصف والقنص، رغم نصح الجميع بعدم المرور. أوصل ابنه وعاد إلى جبل محسن. المعارك كانت لا تزال مشتعلة، فإذا به يتلقى خبر مفارقة ابنه الحياة. جن جنون الوالد، فحمل السلاح وراح يطلق النار على التبانة، والدموع ملء عينيه. يعيش الأب الآن على ذكرى الابن، وصورة فوق رأسه. يرفض أن يكون ابنه قد قُتل بسبب مذهبي، فـ «هنا لن تجد طائفياً واحداً بيننا، ونحن معروفون بهذا الأمر، نحن مع القضايا العربية وضد اسرائيل، واليوم إذا أصبح الرئيس بشار الأسد ضد القومية فأنا سأكون ضده، ولا يعنيني، من حيث المبدأ، إن كان علوياً أم غير ذلك».

يحاول أهالي الجبل اليوم مواساة هذا الوالد، بعدما بات في أعينهم محط تقدير وربما «قداسة». تأثيره على أهالي الجبل، كتأثير المحاربين القدامى، معنوي بالدرجة الأولى. «ليست لدينا عدة حرب حقيقية هنا. نقاتل بشباب في مقتبل العمر، لكن ركيزتنا الأولى المحاربون القدامى، الذين ينزلون إلى الساحة في الحالات الحرجة، تحديداً عندما يشعرون بأن وجودنا أصبح مهدداً».

هكذا، «الدفاع عن النفس» و«التهديد الوجودي» من أكثر العبارات التي تُسمع في جبل محسن. حالة ربما يلخصها صاحب محل ملبوسات، عند مدخل الجبل من جهة الزاهرية، إذ يقول: «أثناء اندلاع المعارك، أعطيت أمي رشاشاً من نوع كلاشنيكوف، وقلت لها إذا متنا، ودخلوا عليكم إلى المنزل، فلا تترددي وأطلقي النار عليهم، اقتلي من استطعت منهم ثم أديري الرشاش نحوك وأطلقي النار أيضاً».  

السابق
الاخبار: لائحة إماراتية لطرد 1000 لبناني
التالي
ورقة 14 آذار عن الحوار… من 4 نقاط ؟!