أبعد من مسألة العمالة

أن يُطلق سراح زياد حمصي، بعد فايز كرم، فهذا لا يضيف جديداً إلى معرفتنا بواقع الطوائف اللبنانيّة، الغالب والحاكم. لكنّ الشيء الأهمّ الذي تعفّف عن طرحه مَن تناولوا مسألة العمالة هو: هل كان ممكناً هذا التساهل مع «عملاء إسرائيل» لو أنّ قضيّة الصراع معها ناهضة وفاعلة ومؤثّرة؟ أو لو أنّها فعلاً «قضيّة العرب الأولى»؟
لا حاجة للإجابة، فهي بديهيّة. وفي لبنان تحديداً، يمكن القول إنّ الصراع قد حُسم بين التفتّت الطائفيّ والتوحيد القسريّ باسم قضيّة «قوميّة»، لمصلحة الأوّل. لا بل إنّ الحسم كامل وفائض إلى الحدّ الذي يتيح لإحدى الطوائف مصادرة تلك القضيّة وإعادة تدويرها لمصلحتها.

وهذا وحده ما يفسّر ذاك الزواج العجيب بين الإلحاح على «البندقيّة المقاومة لإسرائيل» والمضيّ، على قدم وساق، في إطلاق سراح «عملاء إسرائيل». إنّها مفارقة تستدعي السخرية بقدر ما تمتهن العقل.
بيد أنّ شهر حزيران (يونيو) يبقى لنا بالمرصاد مُعيداً، عاماً بعد عام، تجديد زرعنا في الخرافات القديمة والكلام القديم. ففي هذا الشهر، من هذا العام، تقع الذكرى الخامسة والأربعون لهزيمة 1967 والذكرى الثلاثون لاجتياح لبنان. ولا يلحظ خطباء المناسبات كيف أنّ الوجهة التي سُلكت من حزيران الأوّل إلى حزيران الثاني أسّست لما نحن فيه اليوم وعبّدت طريقه.

ففي 1967 كانت ثلاث دول عربيّة، اثنتان منها قويّتان وكبيرتان، معنيّة بالصراع (بعدما كانت سبع دول معنيّة في 1948). وفي 1982 كانت دولة واحدة معنيّة به، هي الأضعف قاطبة بين دول العرب. وفي 1967 كان لا يزال هناك ما يُضطرّ حاكماً كالملك حسين، متهماً بالرجعيّة من جانب خصومه، أن يشارك في القتال. وفي 1982 لم يعد هناك ما يمنع «اليمين الجماهيريّ» في لبنان من التعاون مع إسرائيل. وبعد 1967 لعلعت، من الخرطوم، صيحة «لا صلح، لا تفاوض، لا اعتراف». وبعد 1982 انتقلت «منظّمة التحرير الفلسطينيّة» إلى تونس لتبدأ من هناك مسيرتها الطويلة إلى التسوية.

يمكن، أبعد من هذا، القول إنّ حزيران 1967 لم يبخل ببعض الظاهرات التي تفاقمت في 1982 قبل أن تتفجّر في يومنا هذا. يندرج، في هذا الباب، أنّ تلك الهزيمة الكبرى افتتحت تحوّلاً ناصريّاً عبّر عن نفسه في قبول القرار 242 ومبادرة روجرز افتتاحها النزاع الدمويّ الذي شهده الأردن بين العصبيّة الشرق أردنيّة المحتمية بالجيش والعصبيّة الفلسطينيّة التي حملت السلاح الموازي لسلاح الجيش. وهذا كي لا نشير إلى المنازعة الأهليّة الكبرى التي عرفها لبنان، عام 1969، لتعاود الانفجار في 1973 قبل أن تبتلع البلد كلّه في 1975.

وقصارى القول إنّه لم يكن جائزاً من قبل، ولا هو بالجائز اليوم، الالتفاف على تفتّت الواقع وطائفيّة قواه بقضايا يفرضها طرف من الأطراف غصباً على الآخرين. فهذا ما لا يفعل سوى توسيع التفتّت وتعميقه، على ما هو حاصل اليوم، وتحويل القضيّة إلى مسخرة، على ما هو حاصل اليوم أيضاً.
أمّا أن نستبدل وعد الوصول إلى القدس ويافا بوعد التغلّب على نزاع باب التبّانة وجبل محسن فهذا عين الصواب. وهو ما يصحّ في معظم البلدان العربيّة، لا سيّما منها بلدان المشرق. وهذه المهمّة، على رغم التواضع الظاهريّ الذي توحي به، مهمّة بطوليّة على ما يبدو، تفوق طاقاتنا كثيراً.  

السابق
الإرهاب
التالي
ما إلنا إلا بعضنا