دفع الثمن

ذكر 6 اكتوبر 1981 وكأنه اليوم. كنت أبن 15 حين عدت من تدريب لكرة السلة وسمعت في الظهيرة تقريرا اذاعيا عاجلا من ميكر غوردوس عن عيارات نارية سمعت في القاهرة في أثناء المسيرة على شرف مرور ثمانية اعوام على حرب اكتوبر خاصتهم وحرب يوم الغفران خاصتنا. في المساء جلسنا لمشاهدة نشرة الاخبار ونائب الرئيس حسني مبارك مضمد اليد جراء شظايا رصاص المغتالين، يفيد بصوت عميق وبطيء بان الرئيس انور السادات قتله الخونة الذين جاءوا من داخل الجيش.
بعد ثلاثين سنة ونيف، استلقى أمس مبارك نفسه على النقالة خلف ذات القفص الذي احتجز عصابة قتلة السادات، وفي أواخر ايامه اضطر لان يسمع القاضي يقرر حكم المؤبد له. والقاضي اضاف في اقواله الختامية أن الظلام الذي ساد مصر على مدى ثلاثين سنة قد زال عنها.
ليس مؤكدا أن لحضرته كانت امكانية اخرى لهذا الحكم. رأس مبارك كان يجب أن يعطى للجماهير المصرية، ولو كان هذا منوطا بالجمهور لما انتهى الامر بأقل من الشنق. لاجتياز مرحلة في العصر الجديد لمصر، كان مبارك ملزما بأن يدفع الثمن. تبرئته كانت ستبعث مصر ابتداء من هذا الصباح هو حمام دماء لم يشهد له مثيل أبدا.
السؤال الكبير الذي يجب أن يطرح، دون صلة بالمصلحة الاسرائيلية التي دفعت ثمنا باهظا لقاء سقوط الرئيس هو اذا كان سقوط مبارك محتما. هل حقا، كما يدعي من اسقطوه، كانت مصر تعيش في وضع الكفر والخيانة منذ الخطاب التاريخي للسادات في البرلمان المصري واعلانه عن استعداده السفر الى كل مكان في العالم، بما في ذلك القدس، تحقيق اتفاق سلام يعيد لمصر ارضها؟
إذا سألتم هذا الصباح في أرجاء مصر من بين الرؤساء الثلاثة الاخيرين لمصر ناصر، السادات ومبارك كان الاكثر حبا وقبولا من جانبهم، لكان الجواب واضحا وقاطعا: ناصر! ليس السادات الذي أعاد الكرامة لمصر باجتياز قناة السويس في 1973 واعادة سيناء في 1982، ولا مبارك الذي عمق التحالف مع الغرب، عزز اقتصاد الدولة وجعل مصر مقبولة في الاسرة الدولية، بل بالذات ناصر اياه الذي هزم في حرب الايام الستة ومع كان يمكنه أن يحتمل الاهانة الى أن قرر الاستقالة وفقط بضغط الجمهور عاد الى كرسيه. ناصر، مقابل مبارك، يعتبر في نظر المصريين والعرب بطلا؛ من وقف في وجه الغرب وجعل نفسه زعيما اقليميا لا يستسلم، حتى لو بث الواقع خلاف ذلك.
مصر مبارك كانت جمهورية تدافع عن نفسها مع أجهزة أمن متصلبة كي لا يكون مصير الرئيس كمصير سلفه الذي قتله رجال الحركة الاسلامية. مصر تقدمت اقتصاديا، طورت سياحة مزدهرة وبقيت القوة العربية الاقوى، ولكن هذه تغييرات لم تتغلغل عميقا وأبقت في الخارج المشبوهين الخالدين، ذات أصحاب الذقون.
مبارك كان أقل وحشية من الاسد، من بن علي ومن القذافي. وبالذات بسبب ذلك اسقط. وهو لا يعتبر كمجنون مستعد لذبح شعبه كي يبقى في الحكم، ولهذا فقد كان سهلا على اوباما، ميركيل وساركوزي الذين قبل سنة سنتين فقط عانقوه في مكاتبهم التخلص منه. الغرب لا يزال يقسم العالم الى أخيار وأشرار، ولا يوجد وسط. اذا كنت رئيس مصر، فكن سيئا حتى النهاية ولعلك تنجو. اذا كنت في الوسط، فنهايتك أن تنتهي على نقالة في قفص.   

السابق
أكاديمية لاكتشاف المواهب الجديدة
التالي
مهرجان شعري حاشد بذكرى التحرير في المعشوق