بشّار الأسد يتباهى أمام العالم

هناك أمور مؤكّدة، وتكفي وحدها للإشارة إلى الوجهة الأساسيّة للأحداث.
مثلاً، من المبتوت فيه تماماً أنّ ما من ديبلوماسيّ سوريّ طردته عاصمة غربية سيعود إلى حيث كان.
مثل آخر، أنّ أعضاء مجلس الشعب السوريّ الجديد يمكن أن يتسابقوا على خلع الألقاب والأوصاف التعظيميّة التقليديّة للطاغية، كما كانوا يخلعونها على والده الطاغية، إلا لقباً واحداً.
فمن يجرؤ بين أعضاء مجلس الشعب السوريّ على وصف بشّار الأسد بأنّه "باني سوريا الحديثة" أو "صانع سوريا الحديثة" كما كان النظام البعثيّ وزبانيته وأعلامه يردّدون ليلاً ونهاراً؟
الجواب بسيط: لا أحد. ولو وجد عضو في مجلس الشعب وقع في هذه الورطة، لأحيل إلى مجموعة من الشبيحة يصلحون أمره بمعرفتهم. فمهما كان انفصال بشّار الأسد وربعه عن الواقع، وتصويرهم إيّاه على نقيض ما هو، إلا أنّهم لا يستطيعون وصف بشّار الأسد حالياً بأنّه "باني سوريا الحديثة" و"صانع سوريا الحديثة" كما كانوا يقولون عن والده. كما أنّ بشّار الأسد يمكنه أن يعد السوريين بـ"النصر" في مواجهة المؤامرة والإرهاب لا فرق، لكنه لا يملك أن يعدهم بما سبق أن وعد حسن نصر الله به أهل الضاحية الجنوبية في أواخر حرب تمّوز بأنّها ستبنى لتكون أجمل بعد الحرب. المختصر المفيد من كل هذا، أنّ النظام البعثيّ برئيسه وبرلمانه وإعلامه لا يملك غير التسليم ضمنياً في الوقت الحالي، بأنّ بشّار الأسد هو "مدمّر سوريا الحديثة".

فما يفعله بشّار الأسد ليس فقط قتل الناس، جامعاً الهمجية من طرفيها، أي من أكثر الوسائل الجرمية بدائية إلى أكثرها فتكاً، بل أيضاً "تدمير الحجر" في سوريا، ومحاصرة قدرة هذا البنيان والكيان على الإستمرار والعيش. التعطّش للدماء ينبغي ألا ينسينا هذا التعطّش الذي لا يقلّ ضراوة للهدم. في التجربة اللبنانية أيضاً، كان بشّار الأسد يربط بين سياسة "التنكيل" بالناس من ناحية، مع سياسة "إحراق البلد". لكن ما حصل بشكل جزئي في التجربة اللبنانية، يسعى بشّار الأسد الى تحقيقه بشكل كلّي في التجربة السوريّة: التنكيل بشكل واسع، يترادف مع التهديم على أوسع نطاق.
ما لا يفهمه بشّار الأسد هنا أنّه بذلك يقطع بيده الشريان الذي يصله بالإستبداد الشرقيّ. فهذا الإستبداد يبني حجيّته في الأساس على تصوير المستبدّ على أنّه "صانع العمران" و"باني المدن والسدود والجسور". قبل بشّار الأسد، كان كثير من مستبدّي الشرق يتفاخرون بأنّهم في استطاعتهم محو نسبة من شعبهم من أجل صهر المجتمع في بوتقة إستبدادية عمرانية، لكن بشّار الأسد يتفاخر فقط بأنّ في استطاعته محو هذه النسبة من شعبه لا لشيء، إن لم يكن الهدم لذاته. ما يميّز بشّار الأسد بين كل مستبدّي الشرق في القديم والجديد، أنّه لم يرغب يوماً في بناء شيء، وأنّه وجد نفسه لاحقاً يهدّم كلّ شيء تقريباً، كما لو كان يخوض الحرب في مستعمرة تتبع لنظامه ما وراء البحار!

بشّار الأسد يسدي بذلك أثمن خدمة للعقل العربيّ باتجاه تحريره من منظومة الممانعة، من حيث هي منظومة الإستبداد الشرقيّ في مرحلة ما بعد الحرب الباردة، وهذا يتضح ايضاً من خلال الخلطة العجائبية التي أعملها الطاغية في كلمته أمام حفل الدمى بالأمس، حيث دمج النظريّة الممانعاتية التقليديّة، أي نظرية "المؤامرة"، أي تآمر الغرب من خلال المطالب الديموقراطية والتحررية على الشعوب والطعن في وفاء هذه الشعوب لقياداتها المجرّبة، مع النظرية الغربية حول الإرهاب، في زيّها الأكثر يمينية ومحافظة وغطرسة بإزاء العرب. بعد أنّ ظلّ حافظ الأسد يتذاكى دهراً حول تعريف مفردة "الإرهاب" وما يقصد بها ومن تشمل، انتهى نجله بشّار إلى الإلتزام حصرياً بنظريّة "الإرهاب" بالشكل الذي يسوّقها عتاة اليمين في أميركا واسرائيل، انما جنباً الى جنب مع ردّه هذا الإرهاب إلى أحد افرازات "المؤامرة" الإمبريالية الرجعية التي تتعرّض لها سوريا.

فأنى لرجل أن يكمل حربه على شعب ثائر بثلاثية تقديم نفسه على أنّه مهدّم سوريا الحديثة، ولا يملك من مبرّر لاستمراره إلا الجمع بين مخلّفات نظرية "الإرهاب" بالشكل الأكثر اسلاموفوبية الذي يمكن أن تطرح فيه (مئات آلاف الإرهابيين المنتفضين بالصدور العارية والهتافات الجيّاشة..) وبين مخلّفات نظرية "المؤامرة"؟ طبعاً، كلّها من علامات الترنّح، الا اذا كان بشّار الأسد يمنّي نفسه في مكان ما، بأنّ حرباً إقليميّة شاملة يمكن ان تنقذه، حيث توزّع الدمار على جميع بلدان المنطقة.
  

السابق
مع من يقف الفلول الخليجيون؟
التالي
أهالي العديسة يرفضون شكوى إسرائيلية عن تشييد حوض ورود