الطريق إلى دمشق يمر من طرابلس

لمرة جديدة يتوهم اللبنانيون أنهم «قبضايات» المنطقة وفرسان العرب وخيّالتهم. وإذا كان سياسيو البلد من الانتهازية بحيث إنهم لا يفكرون إلا في حصاد أكبر عدد من الأصوات في انتخابات عام 2013، من دون أن يلقوا بالا لما تجنيه عبثيتهم الدموية، فإن الشعب يساق إلى المذبح، بحماسة منقطعة النظير.
توهم اللبنانيون أنهم سيحررون فلسطين، وينشرون الديمقراطية في العالم العربي أجمع، عام 1975، فإذا بهم ينتحرون على مذبح حرب أهلية دامت أكثر من عقد ونصف العقد، لم يجنوا منها سوى الموت والخراب. والآن يظن بعض اللبنانيين أنهم الأقدر على إسقاط النظام السوري، وكأنما لا حدود لسوريا مع أي بلد آخر غير لبنان. وبالنتيجة قد تحل مشكلة سوريا، وتندلع حرب تفتيتية في لبنان، لا أحد يدري كيف يمكن إطفاؤها.
المتحمسون لإسقاط النظام السوري من طرابلس لا يختلفون في شيء عن مجانين اليسار اللبناني، في دفاعهم المستميت عن مقاتلي منظمة التحرير في بيروت وتجاوزاتهم في السبعينات. ونظرية مكافحة سلاح حزب الله بتزويد مناوئيه بسلاح مماثل، في محاولة لتحقيق معادلة «توازن الرعب»، لن يجني من ورائها اللبنانيون غير انتحار جديد، ستكون نتائجه أشد إيلاما من المرة الأولى.
يظن السلفيون اللبنانيون المتحمسون لقلب النظام السوري، مثلا، أن الساحة لهم وحدهم في طرابلس وعكار شمال لبنان، وأن الكلاشنيكوفات والقنابل التي باتوا يتباهون بحملها في وضح النهار، لإرعاب الآمنين، تكفي لإسكات الأعداء. المشكلة أن الوضع أعقد من ذلك بكثير. وتماما كما تصور فرسان السبعينات، أنهم لا بد منتصرون على إخوانهم في الوطن، فإذا بمن بقوا منهم أحياء، بعد 17 عاما، يكتشفون أن لبنان لا يعيش إلا على توافق الأقليات. وهكذا سيجد عناتر اليوم أنفسهم في مواجهة مسلحة مع سلفيين آخرين من مواطنيهم، وإسلاميين يختلفون معهم في الوجهة والتطلعات، والتحالفات. ومهما قيل إن شمال لبنان سني ومتعاطف مع المعارضة السورية، فإن ثمة من لهم في الموضوع رأي آخر، وإن قل عددهم أو كثر، إلا أن وجودهم (المسلح طبعا) سيعرض منطقة الشمال كلها – وربما امتد أوارها إلى كل لبنان – لمعارك لا تحمد عقباها. وإذا كان البعض يظن أن الاقتتال سيكون شيعيا – سنيا، فهذا على شناعته ثمة ما هو أبشع منه وأدهى. فالمتوقع في مثل هذه الأحوال اقتتال سني – سني ضمن المنطقة الواحدة. وبما أن لكل فريق حلفاء يتمنون تسليحه، فإن الحرب ستكون ضمن الشارع الواحد، والزقاق الضيق.
هذا السيناريو بتنا نشاهد مقاطع منه في أحياء طرابلس، حيث لا يوجد شيعة ولا علويون، ورأينا أجزاء أخرى مفزعة على غراره في قلب العاصمة بيروت، منذ أيام، حين اشتبكت قوات سنية – سنية (مع حزب الله وضده) في طريق الجديدة، بالقذائف والقنابل والرشاشات.
منطق الحرب لا يعترف بالتقسيمات المذهبية، ونوعية الضحايا لا تخضع لفحوصات الجينات الطائفية، فالسلم يعم على الجميع، كما تنفث الحرب كراهيتها من دون رحمة أو تمييز.
ثمة فرق هائل بين مساندة المعارضة السورية وتدمير لبنان نكاية في النظام السوري. فأن تقف إلى جانب المظلومين هو أمر، وأن تطالب بانسحاب الجيش اللبناني واستبدال ميلشيا يطلق عليها اسم «جيش لبنان الحر» به، كما يريد البعض، هو شأن مختلف تماما. وأن يلجأ المعارض السوري إلى لبنان هربا من عسف النظام لا يبرر أن يكدس هذا المعارض، هو نفسه، القذائف والمتفجرات في شقته في شارع الحمراء، ويفتح معركة ضارية لسبع ساعات متواصلة، مع الجيش اللبناني، في منطقة آهلة بالسكان ويقتل ويجرح الأبرياء.
الوضع الحالي لا يتسبب فقط في قضم مؤسسات الدولة اللبنانية، ويصيب هيبتها في الصميم، لصالح ميلشيات ومسلحين لا وازع لهم ولا ضابط، لكنه أدى وسيؤدي إلى مزيد من الفلتان والفوضى.
كل طرف يظن أنه المستفيد الأول من المأساة. مناصرو المعارضة السورية يراهنون على شمال لبناني خارج من قبضة الدولة تدخل إليه الأسلحة وتمر إلى حمص وتلكلخ وحماه وربما إلى بيروت، من دون رقيب أو حسيب، لتحريرها من حزب الله. أما مناصرو النظام السوري فيرون في انفلات العقال الطرابلسي والعكاري، ودخول هاتين المنطقتين في صراعات دموية، ما يصرف الأنظار عما يحدث في سوريا، ويثير بلبلة عند الرأي العام.
وفي الحالتين فإن الذين يدفعون الثمن هم مواطنون لبنانيون وسوريون، لا ناقة لهم ولا جمل. فبعد خطف 11 لبنانيا، من قبل معارضين سوريين – وهذا جزء درامي آخر من المسلسل – بات أمن السوريين في الضاحية الجنوبية وربما في بيروت عرضة للانتقام والتشفي. وما عليك سوى أن تتصور ما يمكن أن يحدث لو أصيب المخطوفون أو بعضهم بأذى.. عندها ربما لن تعرف من سيهجم على من ولا كيف! فثمة من بين أهالي المخطوفين من هدد بأنه لن يصغي لتعليمات حزب الله لو وقعت الواقعة، وأن الانتقام لن يبقى في لبنان وحده.
من الغباء المشين أن يغرق لبنان نفسه في المجزرة السورية، بينما لا يزال يلملم ذيول حربه الأهلية البغيضة. لكن يبدو أن الذهنيات لا تتغير، والفكر الكيدي من شيم العرب. يقال إن «العاقل من اتعظ بغيره»، فما بالك حين لا يتعظ حتى من تجربته الذاتية؟ قال القادة الفلسطينيون ذات يوم إن «الطريق إلى القدس يمر من جونية» مما كلف اللبنانيين 150 ألف قتيل، هذا غير الجرحى والمفقودين. واليوم ثمة من يظن أن «الطريق إلى دمشق يمر من طرا  

السابق
واشنطن تسعى لإعادة الوضع السوري إلى «المربع العسكري»
التالي
«فتـح»: أمـن عـين الحلـوة من الأمـن اللبـناني