الخوف من الجيش..الخوف على الجيش

عبارة "لا للجيش" التي قيلت في لحظة انفعال، يتبيّن حجم الأضرار التي سبّبتها: لأصحابها، للجيش، وللاستقرار الأمني والسياسي. وسيندم قائلوها على تسرّعهم، كما ندِم آخرون ارتكبوا أخطاء وخطايا في حقّ الجيش والاستقرار، كما سيندم آخرون… عندما تحين الساعة لمراجعة الحسابات.

على الأرجح، لم يكن الجيش اللبناني على أفضل حال في المشهد الأخير. كان الأفضل أن ينأى السياسيون بأنفسهم عنه، كما يفعل هو إذ ينأى بنفسه عنهم. والمؤسسة العسكرية كانت في غنى عن العبارات العدائية المتهوّرة.

لكن في المقابل، كانت في غنى عن المواكب الداعمة، والتصاريح التي صدرت عن قوى بعضها المعروف باحترام الجيش ودوره، فيما بعضها الآخر بلغت به المزايدات حدوداً غير مألوفة. وهذا البعض كان أسهم عمداً أو عن غير قصد في مراحل معيّنة، أو ما يزال يسهم، في إضعاف الجيش وتعريضه إلى ضربات يعاني من آثارها.

فالقائلون "لا للجيش" ليسوا معادين له إلى الحدّ الذي أظهروه في لحظة الانفعال بعد مقتل الشيخ أحمد عبد الواحد ورفيقه الشيخ محمد مرعب.

أمّا المهلّلون لدور الجيش فلا يُقرن الكثير منهم أقواله بأفعاله.

ولا حاجة إلى تعداد النماذج التي يصطدم فيها الجيش ببعض هؤلاء، أو اصطدم في مراحل مختلفة وتكلّفَ الشهداء.

يدرك الجيش أنّه، على المستوى اللبناني العام، يحظى بشعبية تفوق أيّ طرف أو حزب أو تيار.

ويقال تقليدياً إنّ اللبناني "يحبّ البدلة"، وثمّة عوامل سوسيولوجية وبسيكولوجية متداخلة أدّت إلى ذلك. وهذه العوامل أدركها بعض السياسيين الذين بنوا صورتهم وزعامتهم من خلال رصيد الجيش وصورته، والعماد ميشال عون هو أبرز الأمثلة.

ولذلك هو اليوم يحاول تلميع هذا الرصيد من خلال حملته لدعم الجيش، والتي تميّزت بمبالغة غير مألوفة في طريقة التعبير.

الداعمون… بالأقوال!

الصورة اليوم مقلقة على رغم أنّ الجيش متماسك تماماً، ومحاولات الشحن يصعب عليها كثيراً أن تلفح الجيش.

ولا خوف فيه لأنّ الأصوات العدائية التي استهدفته أخيراً لا تُعبّر إلّا عن أقليّة الأقلّية، لأنّ أصحابها لا يمثّلون فئة طائفية أو مذهبية أو سياسية ذات شأن.

فالسنّة "يحالفون" الجيش بلا تحفّظ منذ انقضاء مرحلة الكفاح المسلّح الفلسطيني في السبعينيّات من القرن الفائت، وهم ذاقوا مرارة الميليشيات في بيروت في النصف الأول من الثمانينيّات.

ولا يخاف الجيش من أصوات متفرّقة ومنفعلة في منطقة هي الخزّان الأبرز له.

وفي حرب نهر البارد، قدّم السنّة اللبنانيون ولا سيّما أبناء طرابلس وعكّار، إثباتاً لهذا الموقف.

لكن ما يقلق هو أن يتحوّل الجيش إلى مادّة تجاذب أو استغلال سياسي، أي أن يجعل منه السياسيون سبباً للتأزّم والانقسام وليس عنصر استقرار وتوحيد. عندئذٍ يصبح الجيش "وجهة نظر"، وهنا تكمن المخاطر, وصورة المواقف المتناقضة بين مؤيدة ومندّدة بالجيش هي في ذاتها إشارة سلبية، خصوصاً إذا أتيح لها أن تتطوّر.

فهي أوّلاً تصوّر الجيش كأنه إلى جانب فئة في وجه أخرى، ومن المؤكّد أنّ المؤسسة وقيادتها تبذلان المستحيل لإثبات العكس.

وهي ثانياً تثير المخاوف من قيام طرف معيّن، داخلي أو خارجي، باستغلال هذا التناقض لضرب الاستقرار، وهو ما حصل عشية اندلاع الحرب في العام 1975.

في مطلع السبعينيات من القرن الفائت، اصطدم الجيش بالكفاح الفلسطيني المسلّح.

يومذاك، كان المزاج العام للسنّة و"الحركة الوطنية" إلى جانب الفلسطينيين، وكان المسيحيون مع الجيش بما يعنيه لهم من خطّ أمان، فانطلقت تظاهرات وتحركات شبه يومية تدعمه. وفي ظل هذا الانقسام، ارتكب السياسيون خطاياهم ونفّذ بعضهم مؤامرة على الجيش، فكبّلوا يده، وفقدَ قدرته على تأدية دور الضامن للسلم الأهلي، ووقع الانفجار الكبير.

اليوم، ومع التقلبات الإقليمية الهائلة وعودة التصارع الدولي حول النفوذ في الشرق الأوسط، تبدو المرحلة شبيهة بالحرب الباردة بين الشرق والغرب. وإذا كانت اتّفاقات كمب ديفيد وأزمة العمل الفلسطيني المسلّح قد فجّرت لبنان في العام 1975، فإنّ عواصف "الربيع العربي" ومأزق الأنظمة تهدّد بتفجير مماثل… إذا قرّر السياسيّون أن يكرّروا "اللعبة".

فالوضع المثالي للمؤسسة العسكرية هو الذي تكون فيه متفرّغة لعملها التقني الذي يَكْفله الدستور والقوانين، أي أن تحافظ على صورتها المحايدة وتنفّذ المهمات التي تُكلّفها بها السلطة السياسية وتغطّيها بالكامل.

ويعني ذلك أن يتمّ سحب الجيش من التداول كمادة سجالية يستغلّها السياسيون. فالجيش في الدول الحديثة ذات الأنظمة الليبرالية لا يُقحم نفسه ولا يستطيع السياسيون إقحامه في متاهاتهم، لأنه ليس حزباً يمتلك عقيدته ويقاتل من أجلها.

وهو ليس جيش النظام الذي يدافع عنه، بل هو سياج الوطن كله وهذه هي عقيدته. والمؤكّد أنّ قيادة الجيش اللبناني تمتلك الفكر الذي يضمن عدم وقوعه في أخطاء السياسة والسياسيين.

وهناك مَن يعتقد بأنّ الاستثمار الخبيث لشعار "نعم للجيش" قد يوازي في مخاطره الاستثمار المدمّر لشعار "لا للجيش".

ليس الخوف هو الذي يناسب الجيش، لا الخوف من الجيش ولا الخوف عليه، فالخوف عقيدة مدمّرة. فحذار!  

السابق
المبادرة السعودية أبعد من الحكومة…
التالي
نفق الاختطاف؟