لا تخف يا صديقي غابي

في عصر ذلك اليوم، ضاقت بنا غرفة الجلوس، فأعددت قليلاً من القهـوة، وصحــبت والدي إلى شرفة منزلنا المجاور للبحر، طامعين ببعض الهواء النظيف الخالي من رائحة البارود التي كانت تغزو المدينة.
بعد رشفته الأولى، أمعَن والدي النظر إلى الأفق الأزرق، وقال: «سقى الله تلك الأيام الغابرة عندما كانوا جميعهم، من كافة الطوائف، يجتمعون لديّ ليتناولوا العشاء في المطعم البحري. أبو عـمر ومن على يمينه أبو علي، ويتوسطّهما جورج الذي كان دائما هو من يبدأ الكلام عن السياسة، وعندها تعلو أصوات بعضها موالٍ وبعضها الآخر معارض. ولكن الطريق كان ينتهي بالجميع إلى عبارة اشتهروا بها: «بالنهاية لبنان بظلّ للجميع، وكلّنا أخوة بهيدا الوطن..».
انتهى فنــجان القهــوة وانسحب والدي، من دون أن يعــلم أنّه تركـني أفـكّر بأيّام طــفولتي. أنا الذي تعلّمت أوّل حروفي في الثانوـية الوطنية الأرثوذكسيـة التي تجـاور منــزلي. تذكّرت جيّدا أيّام الدراسة عندما كنّا لا نفرّق بين مسـلـم ومسيحي، سوى أنّه في حصّة الدين كان البعض يذهب برفقة الشـيخ والبــعض الآخر برفقـة الخوري.
ما أذكره جيّداً أنّي كنت أحضر ساعات الدين مع «الأبونا» أكثر ممّا كنت أحضرها مع الشيخ.
أعود إلى منزلي من المدرسة لأذهب للعب مباشرة مع صديقي «غابي» الذي قضيت معظم أوقات طفولتي في منزله، وكنت دائماً ما أُشاطره «القربان» نهار الأحد.
في مدينتي، لم أعتد قطّ على التفرقة. فأحمد كان يدقّ جرس الكنيسة عندما يتعب طوني، وشجرة الميلاد لم تكن تميّز منزلاً مسيحيّاً من آخر مسلماً، فأينما دخلت وجدت الشجرة مُضاءة.
هكذا الكل في طرابلس، تربّى على ما توصي به الديانتان. أحدٌ لم يجد نفـسه غريبــاً عن هذه المدينة.
في الأحداث الأخيرة، وقف الكلّ وقفة الرجل الواحد للدفاع عن طرابلس، والياس كان أوّلهم. كان وما زال يبعث فينا الأمل والحماسة عندما نفتقر لهما، ويقول: «طرابلس لإلنا كلّنا، إسلام ومسيحيّين. منحلم سوا ومنبنيها سوا!».
واليوم كما الأمس، فمهما تبدّلت الظروف سيبقى أحمد أخاً لطــوني والــياس. سيرفض أن يترك صديق طفولته المدينة، سيمنعه من بيع منزله والذهاب بعيداً، بحثاً عن مــنزل جـديد في مكان آخر!
سنبقى في هذه المدينة لنعكس الصورة الأجمل لها، إخوة في محبّة الوطن والمدينة، متعصّبين لها بعيداً عن دنس الطائفية.
نحن جميعاً نشكّل ألوان المدينة، وإن ذهب منها لون أصبحت كلوحة ناقصة لا قيمة لها ولا جمال.
لا تخف يا صديقي «غابي»، ولا تفـكّر بالرحيل وهجر المديـنة. هنا بدأنا الحــياة معاً وهــنا سننهيها معــاً، سنربّي أولادنا كما فعل أهلي وأهلك، على حبّ الوطن والتضـحية في سبيل نهوضه وتقدّمه.
لا تخف ولا ترحل. إن ذهبت أنت، من سيبقى لأشاطره «قربان» الأحد؟   

السابق
تخصيب الفتن
التالي
مسؤول عسكري: الشمال يتعافى..