مصر تنتخب

قديما قيل ان أهم ما في الانتخابات انها تتكرر كل أربع أو خمس أو ست سنوات. الناخب المصري الذي سيتوجه اليوم الى صناديق الاقتراع يدرك للمرة الاولى في التاريخ ان صوته سيصل وسيحسب وسيترك أثراً.. فهذا هو جوهر الثورة ووعدها الأهم، وكل ما عدا ذلك تفاصيل قابلة للجدل بل والشك أيضاً.

ثمة رئيس للجمهورية المصرية الثانية سيخرج اسمه من الصناديق غداً أو في الدورة الثانية بعد ثلاثة أسابيع يعبر عن وعي شعبي جديد منقطع عن الثقافة الموروثة من زمن الفراعنة، يؤسس لنهج جديد في التعاطي مع كيان مصر كأول دولة مركزية قوية نشأت على ضفاف النيل وكانت على الدوام بحاجة الى فرعون أو ملك أو خليفة أو خديوي ينظم شؤون اجتماعها ويشرف على جريان نهرها العظيم.. ويستعبد الشريحة الاكبر من سكانها الفلاحين والحرفيين.

القطيعة مع هذه الثقافة تبدأ اليوم، وتعلن أن الشعب المصري بلغ من النضج ما يؤهله لتولي زمام أمره من دون وصاية أو رعاية أو توجيه. لن يخرج من الصناديق حاكم مطلق الصلاحية، بل موظف في خدمة العامة، يقبض راتبا محددا ويصبح بعد سنوات رئيساً سابقا غير محكوم أو غير مقتول، يسلم المنصب الى خلف يظهر اسمه في مراكز فرز الأصوات.
لكن، عدا القطيعة، فإن الصورة لن تكون مثالية الى هذا الحد. لان الانتخابات هي استجابة للثورة لكنها ليست ترجمة دقيقة لما طلبه الثوار أو تمنوه. هي تغلب الحاجة الملحة الى الاستقرار والاستمرار في تغيير النظام ببطء، على الرغبة في التغيير الجذري وإقامة نظام جديد ينتمي الى فئة الديموقراطيات الغربية وينافسها. هي تعبير عن التسليم بالواقع الذي يفتح الصراع السلمي الاول من نوعه بين بقايا الجمهورية المتهاوية ومناهضيها الإسلاميين.

ليس من المهم لمن تكون الغلبة في هذا الصراع، لان الانتخابات تبدو مثل طقوس غريبة يكتشفها المصريون ويتمتعون بممارستها، أكثر مما تبدو تحديداً لوجهة مصر في السنوات القليلة المقبلة. لا أحد من عامة الناخبين المصريين يعرف على وجه الدقة صلاحيات الرئيس الذي سيختارونه اليوم، ولا حتى مدة ولايته، ولا أحد من نخبة الناخبين المصريين يعرف على وجه الدقة أيضاً ما هو شكل الدستور الذي سيكتب لمصر بعد هذه الانتخابات التاريخية.

التنافس جدي جداً وجميل جدا بين المرشحين الخمسة البارزين، عمرو موسى وعبد المنعم أبو الفتوح ومحمد مرسي وحمدين صباحي وأحمد شفيق، لكنه يدور خارج سياق الثورة.. فوز أي منهم سيؤدي الى تعميق الشرخ وربما التوتر، بين البقايا والاسلاميين، وايضا داخل صفوف هذين الفريقين، وليس الانقلاب العسكري حسبما يروج البعض أو يرغب، لكنه لن يلغي الانتخابات الرئاسية المقررة بعد سنوات، ولن يسمح بتأجيلها. وهي انتخابات ستكون أهم وأرقى وأفضل.

وهذا هو الأهم الآن.

السابق
الحب من أول نظرة
التالي
بري هنأ اللبنانيين بعيد التحرير: نؤكد الدعوة الى الحوار لابعاد شبح الفتنة