الهويات القاتلة لا تبني أوطاناً!

رغم الهدوء النسبي الذي سيطر على مدينة طرابلس، عاصمة شمال لبنان، وذلك  بعد حرب شوارع دامت لأكثر من 36 ساعة وصاحب هذا انتشار مكثف للجيش وتسيير دوريات مؤللة وراجلة في مختلف المناطق. وإذا كان الوضع الأمني بات أفضل  في الشمال, وبعد ثلاثة أيام مرعبة, فإن الخوف الحقيقي هو من الوضع الاقتصادي نتيجة الشلل الذي ضرب المدينة والتي يشكل الفقراء غالبية ساحقة من سكانها. وتحذر الأوساط الاقتصادية من أنه في حال استمرار هذا الشلل الاقتصادي في الأسواق لفترة طويلة, فإن ذلك يمكن أن يؤدي إلى انتشار السرقات وأعمال النهب, وخاصة أن السلاح متوافر لدى الجميع.

والسؤال الذي يطرح نفسه: الا تتطلب عمليات تغيير وتجديد الوعي الاجتماعي بمواجهة الخطاب الاصولي الديني, وأن يتصدى دعاة التغيير إلى مناقشات واسعة للوضع الاقتصادي الذي ينتج وضعا متخلفا وأن يتضمن ذلك وضع برامج انمائية وعملية تتبناها الحكومة وتعمل على تحقيقها لاخراج هذه المنطقة من براثن الفقر. وعندما ننظر إلى طرابلس من عين مجردة فاننا نرى بأن الجميع يجب أن يكون لهم مصلحة في بناء هذه المدينة العريقة وخاصة ان حكامها هم من أهل الحكم اليوم ومن بينهم رجال أعمال واصحاب رؤوس الاموال وانهم القوة الوحيدة القادرة على بناء هذه المدينة وتحويلها باسلوب حضاري وحديث وعصري ومتطور إلى منطقة رائدة ومنتجة للاقتصاد الوطني.  ولكن يبدو أن الوعي السياسي الوطني بات يعاني هذه الأيام من تداخل انتماءات سياسية ودينية متناقضة، يحاول التوفيق بينها بطريقة لا توحي بوجود أي تعارض. وأكثر من ذلك، فإن بناء تلك الانتماءات يتم بحيث يؤيد بعضها بعضا، لدرجة نجد فيها أن هناك من يؤيد القومية بطريقة طائفية، ويدافع عن العلمانية من منطلق آخر.

فاليوم كثيراً ما نجد انتماءات عدة تتنازع وجدان الشخص الواحد. إذ تجده في الوقت نفسه وطنيا في داخله، لأن طائفته هي التي تحكم هذا الوطن وتوزع أرزاقه، وعلمانيا في توجهه السياسي لأنه ينتمي لأقلية دينية، وعشائريا لأن عشيرته تتمتع بمكانة سياسية رفيعة واشتراكيا لأنه فقير يتمنى أن ينال زملاؤه الفقراء حقوقهم الاقتصادية. وفوق ذلك كله تجده أيضاً معارضا للديمقراطية لأنه يعتبرها خدعة غربية تريد الإمبريالية من خلالها أن تفرقنا وتثير من خلالها النعرات الانفصالية بيننا، أو بحجة أن شعبه غير مؤهل لها. كما تجده أيضاً متحمساً للأحزاب الطائفية، لأنها تتصدى للقوى الخارجية، وتدافع عن حقوق الأمة، وفي الوقت نفسه قوميا مؤمنا بأن لا طريق للخلاص إلا بوحدة الأمة ولم شملها.
إن هذا التناقض في الانتماءات، أو «الهويات القاتلة»، كما يسميها الكاتب أمين معلوف، أدى إلى ظهور توافقية خادعة وساذجة تعود إلى حالة التشويش والضياع التي يعاني منها المواطن اللبناني. فقد دفعته حالة الضياع هذه للتعلق بكل الانتماءات الدينية والسياسية لتحقيق أهداف مختلفة وأحياناً متناقضة. فالمواطن اللبناني اليوم يشعر بالأمان في أحضان عشيرته أو طائفته لما تحقق له من مكاسب ومزايا نفسية واجتماعية وأقتصادية. وهو في الوقت نفسه يعتز بانتمائه لوطنه من دون أن يدرك أن العشائرية والطائفية قد تدفعان بوطنه إلى الهاوية والتمزق. وأكثر من ذلك فقد نعثر على مقاوم نبيل مستعد للتضحية بحياته في سبيل تحرير وطنه، وإخراج المستعمر منه، ولكنه مستعد في الوقت نفسه للتضحية بهذه الحياة في سبيل أحقاد طائفية ضد أبناء شعبه. إن المتأمل في هذا التناقض الانتمائي وتشرذم الوعي السياسي  يمكن أن يستنتج النقاط الآتية:

أولاً: إن الانتماء إلى هوية معينة ليس تعبيراً صادقاً عن إيمان ديني أو سياسي معين، بقدر ما هو أداة تستخدم للحفاظ على مكاسب وامتيازات اجتماعية وسياسية واقتصادية محددة, ناهيك عن حسابات النفوذ والتراتبية الاجتماعية.
ثانياً: إن غياب الحريات وانسداد الأفق السياسي والهزائم الداخلية والخارجية المتلاحقة أوجدت لدينا حالة من اليأس والقلق دفعتنا للتعلق بأي هوية يمكن أن تخرجنا من هذه الحالة وتبعث فينا الأمل. يضاف إلى ذلك أن تدني مستوى الحريات السياسية والاستئثار المطلق لأنظمة الحكم بالساحة السياسية والثقافية والاقتصادية، أدى إلى تراجع مستوى التواصل السياسي الفعَال بين فئات المجتمع، ما زاد من درجة خشية فئات المجتمع بعضها من بعض، الأمر الذي أدى في النهاية إلى نشوء نوع من الانتماء والتشرذم الطائفي لإيجاد هوية ينتفع بها المواطن لتأمين لقمة عيشه.

ثالثاً: إن البيئة النفسية الداخلية لفئات المجتمع المختلفة هي مبنية على معارضة أنظمة الحكم، لأنها، تعتبرها أنظمة فاسدة غير شرعية، وغير مهتمة بمصالح شعوبها بقدر اهتمامها بمصالحها الخاصة الاقتصادية والمالية. ولذلك تجد هذه الفئات تحمّل تلك الأنظمة مسؤولية فقرها وضياع مصالحها الوطنية وحقوها القومية. وطالما أن الإنسان في هذه المجتمعات لا يستطيع التعبير عن هذه المعارضة بسهولة، ودون تعرضه لقدر من المخاطرة، فإنه يلجأ إلى تفريغ تلك الرغبة في المعارضة من خلال تبني هوية مسموح بها رسمياً تشغله سياسياً، وتحقق له توازنا يحرره من حالة تأنيب الضمير السياسي وتفتح له ابواب وأفاق مالية واقتصادية.

رابعاً: إن الفشل الذريع في بسط الأمن من خلال الـحكومة موجودة وغير موجودة  اجتماعياً وقانونياً واقتصادياً، قد ثبت منطق الطائفة والقبيلة والعائلة، وأدى إلى تمسك الناس بانتماءاتهم التقليدية. فالمواطن اليوم لا يشعر بالأمان تجاه هذه الدولة، لأنها لم تتحول إلى دولة تضمن مصالح وحقوق الجميع. لذلك، وطالما أن الدولة لا تؤمن لهم العدالة والمساواة والرفاه الاقتصادي، فقد لجأ ويلجأ الناس إلى الاحتماء بانتماءاتهم التقليدية لحماية أنفسهم من نوائب الزمن.
بعد ذلك كله نجد أنه بات ملّحا التنبه لهذا الوضع الذي أصبح يهدد كيان لبنان، وأكثر من أي وقت مضى، ويهدد وجود الوطن ومستقبله. ومن هنا لابد من العمل على مسألة دمج مختلف الهويات في هوية واحدة تستوعب الجميع، وتراعي خصوصيات الهويات الأخرى وتفردها, بحيث يتم إشراك الجميع في الحياة العامة والاعتراف بكامل حقوقهم من دون تهميش أو ترفع. فالهوية التي لا تستوعب الجميع تبقى هوية خادعة، إن لم تكن قاتلة ولن تستمر فئة واحدة في الوطن حاكمة على حساب الآخرين ورغم أنفهم!.

ختاماً، اعتقد بان الجهود يجب ان تنصب على نقاش الواقع السياسي – الاجتماعي بكل تفاصيله وفي مقدمته الوضع الاقتصادي,  فبدون تطوير الاقتصاد الوطني وتغير صورته المشوهة وتحويله  إلى اقتصاد انتاجي ابداعي يمتلك القدرة على مراكمة رأس المال ويطور الخبرات بما تتناسب مع تطوره وبالاهتمام بالتنمية البشرية كأول المهام المطلوب التصدي لها, فان كل ما تتضمنه السجالات النظرية لا تخرج عن كونها دردشات لن تحرك «قشة من مكانها» بل إنها سوف تُضرم النار في هذه القشة التي سوف تحرق البلد ومن فيه!.

السابق
حسابات مسبقة !!
التالي
أسكتُ عن الكلام المباح