السفير: عكار مع الجيش في مواجهة الفتنة .. بالحقيقة

مرت منطقة عكار، أمس ، في اختبار صعب ودقيق، وضع لبنان امام خطر الانزلاق الى فتنة عبثية، ظهرت أشباحها في أماكن عدة خلال ساعات النهار والليل، ما أعاد الى الأذهان تجارب مريرة سابقة، كلفت اللبنانيين أثماناً باهظة، فيما يظل الرهان معلقاً على وعي القيادات المعنية لمخاطر هذا الواقع وضرورة محاصرتها، منعاً للفتنة التي تحاول ان تطل برأسها، كلما وجدت الفرصة سانحة.
ولعل أخطر ما في الأمر هذه المرة ان الجيش اللبناني الذي يشكل الضامن ، شبه الوحيد، للاستقرار في البلد، بدا مهدداً بأن يكون أحد أبرز ضحايا الوضع المضطرب الذي انطلقت شرارته من طرابلس قبل أكثر من اسبوع، ثم انتقلت عدواه أمس الى عكار، حيث قتل إمام مسجد البيرة الشيخ أحمد عبد الواحد ومرافقه محمد حسين مرعب على حاجز للجيش اللبناني، في ظروف ملتبسة، يُنتظر من التحقيق الذي باشره القضاء العسكري ان يوضحها.
والأكيد، ان المناخ المحتقن الذي يسود البلد، تحت وطأة أحداث طرابلس والسجالات الداخلية المحتدمة، جعل حادثة مقتل عبد الواحد تتخذ على الفور أبعاداً أمنية وسياسية معقدة، فيما اندفع البعض الى استباق نتائج التحقيق، وإطلاق احكام مسبقة كانت اسرع من كلمة القضاء، لا سيما أن الخطاب السياسي لبعض الاطراف وضع المؤسسة العسكرية منذ فترة في «قفص الاتهام»، ما أوجد بيئة ملائمة لتفاعل الاحداث، بشكل دراماتيكي، بمجرد شيوع نبأ إطلاق النار على الشيخ عبد الواحد ومرافقه، وهو الامر الذي تجلى بقطع الطرق من الشمال الى أوتوستراد الجنوب مروراً بالعديد من مناطق البقاع، وصولا الى بعض شوارع العاصمة، بينما شهدت الطريق الجديدة ليلا توترا بفعل اشتباكات مسلحة بين مناصرين لـ«تيار المستقبل» وعناصر من «التيار العربي» (يرأسه شاكر البرجاوي)، أدت الى وقوع عدد من الجرحى.

وبانتظار اتضاح نتائج التحقيق الذي ينبغي إتمامه بأسرع وقت ممكن، فإن الملح الآن هو تحقيق
العدالة والحفاظ على آخر مظاهر السلم الأهلي في آن واحد، مع التشديد على وجوب صون المؤسسة العسكرية، بما تمثله من خط دفاع أخير عن الاستقرار الداخلي والانتظام العام في مواجهة خطر الفوضى والتفتيت، على ان يُترك للقضاء ان يأخذ دوره في تحديد المسؤوليات ومعاقبة المخطئين، استناداً الى مبدأ تحميل التبعات للشخص المرتكب حصراً، وليس لمؤسسته، لا سيما أن قائد الجيش سارع الى اتخاذ التدابير المناسبة والفورية لمعرفة حقيقة ما جرى.
وحتى تبيان الحقيقة، فإن تلاحق الاحداث مؤخراً، من اشتباكات طرابلس الى حادثة عكار، وما بينهما من حوادث متفرقة، يدفع الى التساؤل عما إذا كان تنقل مشاريع الفتنة من منطقة الى أخرى في اوقات متقاربة هو مجرد مصادفة، أم يندرج في إطار مسار مدروس يهدف الى إغراق الساحة الداخلية في الفوضى بعد تعطيل دور الجيش، علماً بأن قرار دول قطر والامارات والبحرين بدعوة رعاياها الى مغادرة لبنان اشاع مخاوف لدى مراجع عليا من احتمال وجود معلومات لدى هذه الدول حول إمكانية تصاعد التوتر في لبنان.

والمفارقة، ان هناك من يريد ان يضع الشمال عموما وعكار خصوصا في مواجهة الجيش، في حين ان هذه المنطقة معروفة بأنها رافد اساسي له بالعنصر البشري، وكأن المطلوب منها ان تتنكر لأبنائها، او ان يتنكروا هم لمؤسستهم العسكرية، بما يتعارض مع منطق التاريخ والجغرافيا.
وقد استدعى الوضع الحساس، الذي استجد بعد مقتل عبد الواحد ومرافقه، استنفاراً شاملا، على مستوى الدولة والقوى السياسية، فيما كاد الشارع يخرج عن السيطرة مع انتشار مجموعات من الاشخاص في مناطق كثيرة، راحت تقطع الطرق بالإطارت المشتعلة والعوائق الحديدية، حتى ساعة متأخرة من ليل أمس، مع الاشارة الى ان مناشدة قيادات تيار المستقبل والمراجع الدينية للجمهور الغاضب الالتزام بضبط النفس ساهمت في عدم تفاقم التوتر أكثر.

روايتان.. بانتظار التحقيق
والى حين انتهاء القاضي صقر صقر من تحقيقاته لجلاء ملابسات الحادثة، فإن مناصري الشيخ عبد الواحد تمسكوا برواية مستقاة من أحد مرافقيه، وفحواها أن الضابط المسؤول عن حاجز العويكات طلب من الشيخ النزول من السيارة، الا أنه رفض ذلك، فقام السائق بالترجل للتكلم مع الضابط، في حين عمد عبد الواحد الى إبلاغ الضابط أنه قرر العدول عن المشاركة في اعتصام حلبا، وسيعود أدراجه الى بلدته البيرة، ولدى محاولته قيادة السيارة والاستدارة للعودة، بادر عناصر الجيش الى إطلاق النار بغزارة في اتجاهها، فقتل عبد الواحد مع مرافقه محمد مرعب فوراً.
في المقابل، أبلغتنا مصادر عسكرية انه من غير المعقول ان يُطلق عناصر الجيش النار على أحد من دون سبب، لافتة الانتباه الى ان أحد الجنود أصيب وتضررت بعض الآليات نتيجة الحادثة، ما يعني ان تبادلا لإطلاق النار قد جرى وأن الموكب كان يضم عناصر مسلحة.
ولفتت المصادر الانتباه الى ان حواجز الجيش تنتشر في مختلف الأراضي اللبنانية، ولم يشهد أي منها إشكالا مشابها، الامر الذي يعني ان شيئا ما قد بدر عن الموكب وأدى الى حدوث إطلاق النار، مشيرة الى انه يجب عدم فصل حادثة الامس عن التحريض المنظم الذي يُمارس ضد المؤسسة العسكرية منذ مدة، في مسعى لتكبيل دورها الميداني.
وعلمنا ان قائد الجيش العماد جان قهوجي ابلغ مراجع عليا ان قيادة الجيش حاولت إقناع تيار المستقبل والحزب السوري القومي الاجتماهي بإلغاء المهرجانين اللذين كانا مقررين في حلبا، منعاً لأي إشكال، ولكن الطرفين اصرا على موقفيهما بإقامة الاحتفالين.

اجتماع السرايا
وفي سياق متصل، ترأس الرئيس نجيب ميقاتي في السرايا الحكومية اجتماعا شارك فيه وزير الدفاع فايز غصن، وزير الداخلية مروان شربل، وزير العدل شكيب قرطباوي، قائد الجيش العماد جان قهوجي، المدير العام لقوى الأمن الداخلي اللواء اشرف ريفي، مدير المخابرات في الجيش اللبناني العميد إدمون فاضل ورئيس فرع المعلومات في قوى الأمن الداخلي العميد وسام الحسن.
وبينما شدد ميقاتي على أنه «لا حصانة لأحد وأن القانون يبقى دائماً فوق الجميع»، علمت «السفير» انه جرى خلال الاجتماع عرض الوقائع التي ادت الى مقتل الشيخ عبد الواحد، وذكرت مصادر شاركت في الاجتماع ان الموكب تجاوز حاجز الجيش ولم يتوقف، فأطلق عناصر الحاجز طلقتين في الهواء، وردت عناصر المواكبة بإطلاق نار على الحاجز، ما ادى الى اصابة جندي بجروح وإصابة سيارة «هامفي» بأربع طلقات، وعندها اطلق عناصر الحاجز النار على السيارة ما ادى الى مقتل الشيخ ومرافقه.

وأشارت المصادر الى ان سيارة عبد الواحد كانت تنقل اسلحة مرخصة، الا ان السيارات المرافقة كانت تنقل سلاحا غير مرخص، ما دفع عناصر الحاجز الى الاصرار على تفتيشها.
وأكد قائد الجيش العماد جان قهوجي ان الجيش يخضع لما يقرره قاضي التحقيق، «وما يقوله نوافق عليه»، مؤكدا ان الجيش متماسك ولا ينجر الى الخطاب المذهبي.
وتكلم بعض الحضور من وزراء وعسكريين عن مسؤولية السياسيين لا سيما نواب عكار في تهدئة الخطاب المتشنج الذي ينعكس تحريضاً في الشارع، وضرورة وقف المزايدات الانتخابية «حتى لا يضيع الوطن وتطير الانتخابات».
الى ذلك، نوه رئيس الجمهورية ميشال سليمان بالدور الوطني الذي يقوم به الجيش، مبديا ارتياحه لتأليف قيادة الجيش لجنة تحقيق لكشف كل ملابسات وتفاصيل الحادثة واتخاذ الإجراءات المناسبة بأسرع وقت ممكن.
واتصل الرئيس نبيه بري بمفتي الجمهورية الشيخ محمد رشيد قباني ومفتي طرابلس الشيخ مالك الشعار، داعيا الى التهدئة وترك التحقيق يأخذ مداه، مشدداً على وجوب عدم التعرض للمؤسسة العسكرية التي باتت تشكل الضمانة الوحيدة للاستقرار.

ومن ناحيته، أعلن «تيار المستقبل» عن المشاركة في الاضراب العام الذي دعت اليه دور الفتوى اليوم، طالبا من انصاره الالتزام بالطابع السلمي للإضراب، واستنكر التيار اعمال الشغب وقطع الطرق التي شهدتها مدينة بيروت واعتبرها اعمالاً مشبوهة « تقف خلفها زمر معروفة ترتزق عند النظام السوري وأدواته في لبنان».

السابق
سلفيون أو القاعدة.. لا فرق!
التالي
النهار: عكار بعد طرابلس والانفجار يتمدد بعد مقتل عبد الواحد