أولاد الرصاص

هي الجرح النازف في خاصرة طرابلس. إنها منطقة باب التبانة، أمّ الحرمان وسيدة الآلام والمعاناة، وقد عُرِفَت قديماً بـ"باب الذهب" حيث كانت منطقة إقتصادية مهمة، لتغدو اليوم بؤرةً متفجرةً وبركاناً تحت الرماد، لحظة ثورته قابعة على كف عفريت. في الأصل هي منطقة واحدة يعيش اهلها على اختلاف مللهم الدينية والمذهبية بألفة ومودة، وتجمع بينهم صلات قربى ومصاهرة، لكن حين استوطنها "طيور الظلام"، زرعوا الشقاق والفرقة ببذورٍ من فتنة روتها دماء الأبرياء، فتمخضت المنطقة وولد جبل محسن ذو الغالبية العلوية والتبانة وغالبيتها السنية.

أعوامٌ مرت والحرب بين المنطقتين مستمرة، كأن شلال الدماء بات قدراً محتوماً، يتجدد عند كل استحقاق سياسي او مفترق يمر به لبنان أو أي بلد عربي، وربما تكون الرغبة في الثأر المدفونة في أعماق الناس هي الدافع لتجدد الإشتباكات، فحروب الماضي تركت جرحاً عميقاً ينكأ كل من تسول له نفسه ذلك لإيصال رسالة معينة في منطقة باتت تصح فيها مقولة أنها "صندوق بريد" للزعماء والساسة وغيرهم. ولعل الحرمان والفقر المدقع وعدم المبالاة من أصحاب الشأن جعلت البشر والحجر رهن إشارة من يضخ المال في جيوبٍ نخرها العوز حتى إذما إمتلأت سدت بطوناً خائرة تقاسي الجوع، على نحو يجعل من المعارك فرصة للناس يعيشون في ترقبٍ لها.
توجهت صباح الإثنين الى منطقة باب التبانة، سيراً على الأقدام إذ لم يقبل أي سائق أجرة أن يقلني ولو كان العرض مغرياً. من شارع المئتين الى مستديرة أبو علي، كانت أعداد المارة تتلاشى تدريجاً، حتى إذا ما اقتربت من المكان إخترت مقابر الغرباء عسى ان تكون متراساً يحميني من رصاص بات صوته يقرع أذني ولا يطمأنني سوى معرفتي ان الرصاصة إن شاءت أن تخرق جسدي فلن أسمع صوتها مطلقاً.
ما هي الا دقائق حتى بات نهر ابو علي امام ناظري وجبل محسن فوقه مباشرة، وتسارعت نبضات قلبي حتى صرت أشعر بها في شرايين جسدي الذي راح يرتجف كأوراق الشجر. لا مجال لعبور النهر ورصاص القناصة يترصد كل عابر، وتحولت خطواتي الثابتة تردداً. واقفةً بين قبور "الغرباء" حابسةً أنفاسي، واذ بسيارة مسرعة تقف بقربي، ويترجل منها رجل ينبهني الى خطورة موقعي، فطلبت منه نقلي الى الضفة المقابلة.
على المقلب الآخر ترجلت من السيارة، ودخلت مقهى صغيراً هوى زجاج أبوابه نتيجة التراشق العنيف. هناك تجمع عدد من الرجال الملتحين الذين رمقوني بنظرات تعجب وتساؤل، بددها طلبي المباشر ان أزور أماكن المعارك، فعرض عليّ أحدهم مرافقتي حتى لا أسقط برصاص طائش من قناصة لا يميزون مدنيٍاً أعزل عن محارب مدجج.

حربٌ فرضت فرضاً
مدخلُ مظلمٌ، ثم الى نفقٍ تلو آخر في مغامرة انتهت بوصولي الى سوق الخضر حيث المشهد أشبه بوثائقي حي عن الحرب اللبنانية. مسلحون من كل الأعمار: أولاداً، شباناً، وشيوخاً منتشرين، ومن لا يستخدم سلاحه في "الصيد الثمي"ن يستعمله لخلع أبواب المحال لإخراج ما فيها. انها الحرب التي تضيع فيها القوانين ويصبح كل شيء مباحاً حتى السرقة.
يرفع عيسى ابن السابعة عشر ربيعاً رشاشه عالياً، يطلق بضع رصاصات في الهواء ويبتسم، سعيداً بما يحدث، فهو ليس تلميذاً في المدرسة وإنما من أبناء الحياة المظلومين. عاطل عن العمل او يعاون والده بين الحين والآخر وبخاصة في "وقت المعركة التي يثبت خلالها وجوده للدفاع عن الأرض والعرض" كما يدعي، ولا يتردد في القول: "لن أتوانى عن قتل واحد من هؤلاء طالما لدي سلاح وذخيرة". يطل والده من خلفه وبريق الإعتزاز في عينيه بما تلفّظ به إبنه، كيف لا وهو من أعطاه السلاح وعلّمه كيف يستخدمه ليس في وجه عدوٍ غاصب بل مواطن تجمعه به وحدة الحال والمصير، وربما لن يحزن ان سقط فلذة كبده قتيلاً بقدر ما سيغضبه ان يتراجع عن معركة يقول انها فرضت على الطرفين: "منطقتنا كبش محرقة، والزعماء هم الذين يخططون للحرب ونحن أداتها وننصاع لهم ولا يسقط في المعركة سوى الأبرياء".
في منزل عمتها في السوق، تجلس منى (13 سنة) في الزاوية بحجابها المرقط ووجنتيها الورديتين. تركت ليلاً وهي بملابس النوم، منزلها في شارع سوريا الذي يعد خط تماس، وهي تشعر بالخوف الذي يقيدها ويجعلها تتسمر مكانها. تكره منى الحرب وروايات القتل التي تسمعها طوال فترة الإشتباكات، أما حياتها فغدت كساعة تسير على توقيت المعارك.
كانت آمنة (12 سنة) تغط في نومها عندما أيقظها والدها الثالثة فجراً لينقلها الى منزل جدتها في سوق الخضر. تجلس الى كنبة بجانب شقيقاتها يتشاطرن الخوف والدموع. كانت تحلم بأن تكون لها طفولة كأي طفلة في عمرها. تحب دمية "باربي" وحفلات الشاي، لكن قدرها ان تمضي سنوات عمرها القليلة متنقلة هرباً من نيران المعارك.
اندلاع الإشتباكات هي بمثابة الحكم بالسجن على الطفل محمد علي (7 سنوات)، اذ يبقى حبيس المنزل يتابع الأخبار كأي رجل ناضج. يدّعي انه لا يخاف من وابل الرصاص الذي يغرق منزله المشرف على شارع سوريا، إلاّ أن حرارته التي ترتفع أثناء المعارك، بحسب ما تقول والدته، تفضح خوفه الذي يكابر عليه ويحصره بقلقٍ على والده حين يغادر المنزل ولا يعرف ما اذا كان سيراه مجدداً.
على مقربة من جامع حربا، تقف سيارة اسعاف للجمعية الطبية الإسلامية يحاول المسعفون فيها التقاط أنفاسهم بعدما تعرضوا للقنص مرتين أثناء عمليات إخلاء عدد من الأسر، والى جانب السيارة مسلحون يمشّطون الطريق ذهاباً وإياباً في إنتظار فرصة سانحة للرد على مصادر النيران. يسير أبو بلال وسلاحه على كتفه وعلامات الإرهاق بادية عليه، ليس خوفاً من الموت الذي يعتبره مشيئة من الله، وإنما لأنه مضى عليه أيام من دون طعام أو راحة، وهو لا يشعر بالندم بل يستغل الفرصة ليعلم ابنه وعدداً من الأولاد الذي يتنقلون بين المقاتلين، فنون القتال في معركة لابد ان يأتي يوم ويخوضون غمارها. وعن ذلك يقول: "لم ينته الوضع بيننا أبداً في عام 1986، وقعت مجزرة سقط فيها نحو 400 قتيل والنظام السوري آنذاك رفض ان يدخل الصحافيون ليروا ما جرى، واليوم الحل يكون بحصول مصالحة ليس بين السياسيين وإنما بين الأهالي".
شرّ البلية ما يضحك
في جولةٍ لم تخلُ من مشاهد الدمار لمبانٍ تكاد تهوي على رؤوس قاطنيها من كثرة الحروب التي طالت مدتها، كان لزاماً عليّ ان أعدو عند كل مفترق يطلّ على قناصٍ احترف فنّ القتل، لينتهي بي المطاف في أحد الملاجئ حيث كانت زهرة تجلس وجارتها تتناولا "المجدرة" بلا خوف، فقد اعتادتا المعارك. تضحك زهرة "فشرّ البلية ما يضحك"، والى جانبها ابنتها ريان (8 سنوات) جالسة ببيدها قصة باللغة الفرنسية تحاول قراءتها. استغنت هذه الأيام عن عادة المطالعة قبل النوم، فلا امكان لذلك في ملجأ يذكرها بالموت الذي ينتظرها إذا ما حاولت الخروج. تشتاق الى رفاق المدرسة، وتخشى ان تفقد أحدهم في المعارك.
الإشتباكات بين باب التبانة وجبل محسن قصة تتوارثها الأجيال، ولا مؤشر قريباً للعثور على من يكتب نهاية لها. قصة دماء وحقد دفين يرضعها الابناء مع حليب أمهاتهم، ليغدو الثأر هدفهم الاوحد في شبابهم الذي سرعان ما يزول قرباناً للمعارك، وان كان بعضهم يجد الحل في ان تمسك الدولة زمام الأمور وان يتولى الجيش أمن المنطقة بقبضة من حديد.

السابق
عام على مجزرة مارون الرأس: نكبة الذاكرة 
التالي
ما أولوية حزب الله في هذه المرحلة؟