هنـا طرابلـس

أكتب من طرابلس. لا، ليس من طرابلس الغرب، بل ممّا يعرف بطرابلس الفيحاء أو طرابلس الشام – تلك التي يقال عنها عاصمة شمال لبنان، ويسمّيها البعض أيضاً "قندهار"!
لم أكُن يوماً قد سمعت بـ"قندهار"، إلى أن اندلعت حوادث جبل محسن والتبانة منذ سنوات قليلة، فأصبحوا يسمون مدينتي بـ"قندهار" لبنان. استنتجت حينها أن قندهار مدينة منكوبة وموبوءة بسلاح غير شرعي يحمله الجميع.
يوم السبت التقيت صدفة بأحدهم. لم أرتب من ذقنه الطويلة وجلبابه، فليس من الغريب أن نلتقي أصحاب الذقون في طرابلس، وهم ليسوا بالضرورة حملة سلاح أو متعصبين دينياً. حين كنت أتمشى في طريقي إلى الجامعة، لاحظ اقترابي صوبه فانعطف يساراً ليلوذ بإحدى الزوايا حاملاً جهاز اللاسلكي وهو يوشوش: "اليوم كمشوه".
خروجي من جامعتي في القبة كان سريعاً، بعد أن بدأ رفاقي يتناقلون "سمعيّات" عن أجواء مضطربة في التبانة والجبل. أقلتني سيارة التاكسي إلى البيت تشقّ سكوناً غير طبيعي، من دون أن تهدأ مخيلتي في الربط بين ما شاهدته منذ ساعات قليلة، والهدوء العصيب الذي يلفّ المنطقة.
لو كنت أدري ما يعدّ هذا الـ"أحدهم".. كم من الجرأة كانت تكفيني لاستمهاله والحديث معه؟ وإن حدثته عن وجعي، هل كان سيفهمه؟ وإن فهم، هل كان سيتراجع؟ وإن تراجع هو، هل سيتراجع محدثه على الطرف الآخر من اللاسلكي؟

هنا طرابلس، حيث السريالية تبلغ ذروتها، حيث يمتزج أذان الجوامع بصوت الرصاص، حيث الحارات الغارقة في اللامعقول من البؤس هي الأكثر محاذاة لبيوت أغنى أغنياء لبنان، حيث يحتفي شباب المدينة بالإعداد لنصف ماراتونها الدولي، ويُزجّ شبابها الآخر بماراتون الفتنة والطائفية والكيدية.
في مدينتي يمارس الفقر أبشع ديكتاتورياته: الوجوه المنتخبة نفسها، تخاذلها وتقصيرها. الحقل الخصب نفسه لتجارة السلاح وتعبئة الشبان والأطفال. التهجير والنفي القسري نفسهما لشبابها المتعلم والمثقف خارج مدينته أو خارج الوطن. اثنان لا يختلفان على كونها موردا متصاعدا للبطالة والتسرب المدرسي والإدمان وكل أنواع التقهقر الاجتماعي. ولم يعد اثنان يختلفان على كونها اليوم صندوق بريد يمرّر به العابثون رسائل أمنية تهزّ استقرارها، مستغلين فقر البعض وقلة إدراكهم، ليجروا طرابلس إلى فتن جحيمية.
تضاء سريالية المشهد بمجموعة شباب اجتمعوا في حملة "طرابلس خالية من السلاح". ليست الحملة وليدة الأمس القريب، بل تم التأسيس لها منذ بدايات العام. ولم تأتِ جراء حادث معيّن، أو معركة بحد ذاتها.. بل كانت تحركا استباقيا لمجموعة من شباب المدينة اللاطائفيين في محاولة لمواجهة أي اضطراب أمني يخلّ بالسلم الأهلي في المدينة. في هذه الحملة تنشط ليلى العلوية، وعمر السنيّ، والياس المسيحيّ، وزياد الشيوعي، ومراد الفلسطيني، وتدعمها أماني المحجبة، وسحر المتحرّرة. في أكثر من حادث أمني تجدهم مستعجلين لإطلاق بيان موحّد، حريصين على استعمال مصطلحات مدنية محايدة عن أي انتماء حزبي أو عقائدي، ينظمون معارض الفنون ويعتصمون في الشوارع، حيث الفسحة النقية الباقية لي ولهم.

هنا طرابلس، أردّدها للمرة الثانية، من دون أن أعي تماماً إذا كانت لهجتي تشي بسؤال أو تعجب أو تأكيد.

أنا ابنة عائلة مسلمة سنية. علّمتني أمي الصلوات الخمس، وأجدها كل يوم تنهض لأداء صلاة الفجر وإشعال أعواد البخور. والدي الذي يعمل في دار الفتوى لا يزال يكتب في المجلات الإسلامية. أمي وشقيقتي ترتديان الحجاب. ويكاد لا يخلو جدار من بيتنا من لوحة كتبت عليها سورة أو آية قرآنية.
سجّلني أهلي في مدرسة الراهبات. وتوأم روحي مارونية من زغرتا. لم يعارض أهلي زواج شقيقي من شيعية، ولا يزال شقيقي يطمئن على سلامة صديقه العلوي وأهله في جبل محسن كلّما نشبت معارك لديهم.
لكن أهلي ليسوا الصورة "المثالية" عن البيوت الطرابلسية، ولا صورة نادرة عنها. هم صورة حقيقية عن غالبية أهالي مدينتي. فالطرابلسيون، مؤمنين كانوا أو ملحدين، لا يحمل أحدهم ضغينة للآخر. شعبنا "مسلم" بالفطرة، وأستثني عن إسلام طرابلس كل من تاجر بدينه أو أشاع الفوضى والاقتتال العبثي بين أهلها.

حين يتكلّم الجوع يسكت العقل. الطرابلسيون الفقراء "جوعانين"، وعقلهم ساكت. جوعهم سبق عقولهم وفرّقهم.
أتلقّى بفرح التجاوب مع الأسرى الفلسطينيين في المعتقلات الإسرائيلية بعد إضرابهم عن الطعام الذي امتد على أسابيع. عقولهم سبقت جوعهم.. ووحّدتهم.
سينتهي الاقتتال. لكن ليس ذلك ما أنتظره بفارغ الصبر.
أنتظر انتفاضة البطون الجوفاء.. إن تعقّل أصحابها.

السابق
إقفال مكاتبها
التالي
زهرا: التحقيق بمحاولة اغتيال جعجع وصل الى شبه حائط مسدود