جيش في فيديرالية!

ما تقوله آخر جولات القتال القبلي في طرابلس بسيط وخطير ولا جديد فيه سوى تثبيت المثبت: كلما كبر رهان اللبنانيين على الدولة والجيش تكبر خيبتهم بما يبتلع هذا الرهان ويعيده الى البدايات. منطق الامن بالتراضي هذا ليس الا عنوان احباط تاريخي صار وقعه اشد سوءاً مع جمهورية الطائف عما كان عليه في جمهورية 1943 لانه كرس معادلة ولا اغرب وهي تسخير الامن ومعه وظيفة الجيش وقراره للتراضي في حالة السلم والتحييد في حالة الاضطرابات والفتن.
يثير هذا الواقع جدلا مزمنا لا نهاية له ما دام الانقسام اللبناني هو المسبب الاول والاخير في حرب ابدية على دولة لن تقوم. وليس المجال هنا للاستفاضة فيه. غير ان ذلك لا يعني تجاوز شعور واسع لدى اللبنانيين بالخيبة المرة القاسية في كل مرة، بل في كل سقطة امنية، حيال مشهدين متلازمين تلازم التقهقر عن بناء الدولة. مشهد القبليات الطائفية والمذهبية الزاحفة بعمق اخطر في كل مفاصل النواحي اللبنانية. ومشهد تراجع القدرة العسكرية والامنية على التعامل بمنطق حماية الناس فورا الا في ظل الرعايات السياسية والطوائفية والمذهبية.

بين الخشية من "الجيش هو الحل" بما يختزنه الشعار من هواجس ومخاوف على الديموقراطية والحريات، و"لا حل بلا الجيش" بما يثبته واقع اي دولة لا يستقيم فيها استقرار من دون اداة امنية فعالة، يذوي حلم اللبنانيين كلما هبت جولة وعصف اضطراب او لاحت بوادر فتنة.

ثمة مرارة عميقة فعلا بدت ملامحها في الايام الاخيرة في ما لم يقله كثر علنا ولم يقله عنهم احد، حيال "فيديرالية" مذهبية خطيرة لم تعد تقتسم البلاد فحسب بل تستلحق بها صورة الدولة.
سواء اعترف من اعترف او انكر من انكر، ثمة من يعتقد ان الدولة وجيشها يخضعان لتحجيم وتقييد بين دويلة من ناحية ومشروع دويلة من ناحية اخرى، وما بينهما فقط هامش صغير امام دولة التراضي.
هذا الواقع بات اخطر بكثير من اختصاره بخطأ ارتجالي او بقصد مدروس من جهاز امني. ففي الحالين النتيجة واحدة وهي انكشاف لبنان على معادلة يمتزج فيها "توازن التسلح والسلاح" وتوازن المذهبية مع اختلال هائل في منطق احادية الدولة وقدرتها على منع تصدير الازمة السورية الى اراضيها.
قد تستعيد طرابلس الهدوء، ولكن الى متى هذا "الانجاز"؟ وهل يكفي التهليل لعودة الجيش؟ وماذا عن البراكين والمشاريع النائمة والمتحفزة للاشتعال، في طرابلس وسواها لاحقا ما دام الامن يتكيف مع السلاح في "عقيدة" لا مكان لها في العالم الا في لبنان؟

السابق
النهار: بري تبلّغ تحذيرات من اغتيالات مقبلة والحكومة اليوم توفّر اعتماداً للقوى الأمنية
التالي
السفير: طرابلس ـ الضحية: الجيش يحمي الهدنة بانتظار الحل