تعريق سورية..الدلالات والتداعيات

في ثانيتين، اصطبغ وجه دمشق بسحنة بغدادية.

مسار "التعريق" كان بدأ قبل أشهر، لكنه اكتمل بكل سواده الفاحم صبيحة يوم الخميس الماضي. لعله اصبح اشد سواداً وكآبة من وجوه مدن العراق في ذروة هجمة "القاعدة" الكاسرة على إنسانها وعمرانها. ترى، هل تنظيم "القاعدة" هو الفاعل ؟ ام "جبهة النصرة"؟ ام قوى تقف وراء التنظيمين؟

وزير الدفاع الاميركي ليون بانيتا قال إن التفجيرين في دمشق يحملان بصمات "القاعدة" ويذكّران بتفجيرات هذا التنظيم في العراق قبل سنوات، مشيراً الى ان "عناصر التنظيم بدأت تتخذ من سورية ملاذاً لها".

وزير خارجية روسيا سيرغي لافروف أعلن من الصين ان "بعض شركائنا الاجانب يفعلون اموراً عملية حتى يتفجر الوضع في سورية (…) أقصد التفجيرات". بـ "الشركاء الاجانب" يعني اعضاء مجلس الامن الدائمين: اميركا وفرنسا وبريطانيا .

رئيس فريق المراقبين الدوليين في سورية الجنرال روبرت مود قال، خلال زيارته لموقع التفجيرين: "ادعو الجميع في سورية وخارجها ("خارجها" تشديداً) الى المساعدة على وقف اعمال العنف".

مندوب الامين العام للامم المتحدة لمراقبة تنفيذ قرار مجلس الامن 1701 قال إن لديه من المعلومات والتحليلات ما يجعله يعتقد ان الشرق الاوسط سيتحول "مسرحاً لرقصة الموت". رود-لارسن كان مهّد لتصريحه بالقول إن الهاجس الكبير الذي يقلقه يستند الى عمليات تدفق الاسلحة، في غياب شبه تام لأية رقابة، عبر الحدود السورية والدول المحيطة بها .

اخيراً وليس آخراً، تبنّت "كتيبة عامر بن الجراح" التابعة لـ "الجيش السوري الحر"، عبر صفحتها على "فايسبوك"، العملية الإرهابية في دمشق . جاء في تعليقها ان العملية استهدفت "تفجير فرع فلسطين (للاستخبارات السورية) بسيارتين مفخختين وعملية نوعية"، قبل ان يتمّ حذف هذا التعليق لاحقاً بعد مسارعة "المجلس الوطني السوري" الى ادانة التفجيرين واتهام النظام بهما .

من مجمل هذه التصريحات والبيانات الصادرة عن مسؤولين رسميين في دول ومنظمات، يمكن استخلاص الدلالات الآتية :

الاولى: شبه اجماع على اتهام تنظيم "القاعدة"، ومن يشد مشده من تفريعات ومجموعات ارهابية مشابهة، بإطلاق التفجيرين .

الثانية: شبه اجماع في الإقرار بأن التنظيمات المسؤولة عن التفجيرين تعمل في الخارج، او انها تتلقى التوجيه والدعم من الخارج، وان بعضها قد تسلل الى الداخل و"اتخذ من سورية ملاذاً له".

الثالثة: ان اسلحةً يجري تهريبها الى الداخل عبر حدود سورية مع الدول المجاورة .

الرابعة: ان "كتيبة" في "الجيش السوري الحر" اعلنت تبنيها للعملية الإرهابية، مع العلم ان عمليات "الجيش" المذكور تنطلق من داخل تركيا الخامسة: ان مسؤولاً كبيراً في الامم المتحدة يخشى ان يتحوّل الشرق الاوسط، عبر الاحداث السورية، "مسرحاً لرقصة الموت".
الى اين من هنا؟

بات واضحاً ان ثمة معسكرين دوليين يتصارعان في سورية وعليها، تساند كلاً منهما دول عربية واقليمية، وينشغل كل منهما بتنفيذ سيناريو محدد في الصراع له استهدافات، ولا اقول أهدافاً، محددة .

ثمة فريق يضم الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا وتركيا (ومعها ضمناً "اسرائيل")، تسانده دول عربية خليجية، تسعى الى إضعاف إيران لحملها على التخلي عن برنامجها النووي . وهي ترى في استهـداف سورية، حتى حدود تقسيمها او، اقله، إسقاط نظامها، وسيلةً فاعلة للضغط على ايران وليّ ذراعها . كما تتطلع الولايات المتحدة (ومعها "إسرائيل") الى اقامة نظام اقليمي جديد يتمّ في إطاره ايجاد حل لـِ "امن اسرائيل" ولدولة الفلسطينيين الموعودة .

ثمة فريق آخر يضم روسيا والصين وايران، تؤازره سياسياً، وليس اقتصادياً او عسكرياً، الهند وجنوب افريقيا والبرازيل وفنزويلا، وتسانده قوى المقاومة العربية في لبنان وفلسطين والعراق، يسعى الى حماية ايران وخيارها النووي السلمي، ودعم قوى المقاومة العربية المناهضة للكيان الصهيوني، وحماية سورية بما هي حليفة ايران وحامية قوى المقاومة العربية، واخلاء المنطقة من الوجود العسكري الاميركي.

فريق اميركا وحلفائها يعتمد سيناريو الحرب الناعمة ضد ايران وسورية، كما العقوبات الاقتصادية والحصار المصرفي، واستنزاف سورية بواسطة مجموعات مسلحة لحمل نظام الاسد على التسليم بشروط المعارضة الخارجية وفي مقدمها تنحي الرئيس نفسه .

فريق روسيا وحلفائها يعتمد سيناريو مواجهة الحرب الناعمة بضرب المجموعات المسلحة داخل سورية من جهة ودعم خطة كوفي أنان في اطار قرارات مجلس الامن الدولي من جهة اخرى . كل ذلك املاً في تثبيت وضع سياسي وامني مستقر يسمح بمباشرة حوار وطني بقيادةٍ سورية لتحقيق الإصلاح والديمقراطية والسلم الاهلي وترسيخ الوحدة الوطنية.

ماذا لو اخفقت خطة كوفي أنان… وما تداعياتها المحتملة؟

دبلوماسي غربي رفيع رسم أخيراً صورة قاتمة للغاية عن تطور الأزمة السورية، مستبعداً اتخاذ اي خطوات جديدة في مجلس الامن، او حتى خارجه، نظراً الى الانقسامات العميقة في المجتمع الدولي حيال طريقة التعامل مع الوضع، محذراً في الوقت عينه من عواقب اخفاق مهمة مراقبي الامم المتحدة في سورية .

اذْ يبدو الوضع في سورية والمنطقة محكوماً بفترة من الجمود والغموض والترقب بانتظار انتهاء الانتخابات الرئاسية الاميركية، فإن ثمة اشارات يمكن التوقف عندها لتركيب سيناريو او اكثر لما يمكن ان يكون عليه الوضع في سورية اذا ما اخفقت خطة أنان.

ثمة اشارة لافتة اطلقها أخيراً أيضاً وكيل وزارة الخزانة الاميركية لشؤون «الإرهاب» والاستخبارات المالية ديفيد كوهين. فقد حذر من إقدام سورية وايران على استغلال القطاع المصرفي اللبناني لتفادي العقوبات الدولية المفروضـة عليهما، مهدداً بتحركات وعقوبات اضافية شديدة ضد المؤسسات المالية اللبنانية. غير ان الإشارة الأهم كانت قوله إن الهدف الرئيس للعقوبات هو "تشجيع طبقة رجال الاعمال في سورية على ادراك ان ازدهارها وصون ثرواتها وضمان مستقبل اطفالها يتوقف على تنحي الاسد عن السلطة".

حرب الاستنزاف ضد سورية مستمرة، اذاً، بصرف النظر عن نجاح او إخفاق خطة أنان، اذ لا يعقل ان تتمكن اميركا من تنحية الاسد قبل انتهاء مدة انتداب المراقبين الدوليين التي تنتهي في 20 تموز المقبل .

ثمة اشارة اخرى لافتة اطلقها تيري رود-لارسن بقوله إن الشرق الاوسط سيتحول "مسرحاً لرقصة الموت" اذا اخفق مجلس الامن في معالجة الازمة السورية . رود-لارسن، المهجوس بمخاطر تهريب الاسلحة عبر حدود سورية مع الدول المجاورة، له اقتراح قديم بشأن تنفيذ قرار مجلس الامن 1701 المتعلق بحرب العام 2006 ضد لبنان والمقاومة . كان حاول، بصفته مندوب الامين العام للامم المتحدة، تضمين القرار المذكور بنداً يقضي بنشر القوات الدولية المتواجدة في جنوب لبنان على طول حدود سورية مع لبنان مضمراً قطع خط الإمداد اللوجستي الى المقاومة اللبنانية ما يؤدي الى صون "أمن إسرائيل".

ليس من المستبعد ان يعود رود-لارسن الى طرح اقتراحه القديم وتجميله بشعار "حماية" امن سورية بنشر قوات دولية (وربما اطلسية في حال استخدمت روسيا والصين حق النقض) على طول حدودها مع لبنان، لمنع تهريب الاسلحة، اليها ! غني عن البيان ان المجموعات المسلحة الناشطة ضد النظام في سورية لن تتأثر جرّاء هذا التدبير لأن إمدادها اللوجستي متوفر عبر حدود سورية مع دول اخرى مجاورة وفي مقدمها تركيا .

اين السوريون والعرب حيال ترجيح رود-لارسن تحويل المنطقة "مسرحاً لرقصة الموت"؟

ليتهم يعون ويعقلون ويقرأون بعناية تعليق الامين العام للامم المتحدة بان كي مون على تفجيري دمشق وقد ضمّنه، بنية طيبة او بخبثٍ هادف، مقاربةً للخروج من المحنة جوهرها مناشدة "النظام والمعارضة النأي بنفسيهما عن العنف والارهاب والتعاون الفوري والكامل مع جهود الامم المتحدة الهادفة الى انهاء العنف وتسهيل عملية انتقال سياسي يقودها السوريون بأنفسهم".

اجل، السوريون الوطنيون، وحدهم وبأنفسهم، لهم الصفة والمصلحة والقدرة على الحوار وتسهيل عملية الانتقال من الحرب الى السلم الاهلي والإصلاح والدولة المدنية الديمقراطية القادرة والعادلة .

متى يعي السوريون والعرب ضرورة إسقاط مخطط اعدائهم الرامي الى تحويلهم "مسرحاً لرقصة الموت"؟

السابق
جنبلاط تخطّى النأي بالنفس وقرّر اللّاعودة!
التالي
مكانك راوح