غالباً ما نخلط بين الحب والتملك

«أنا هي والأخريات» عنوان الرواية الصادرة حديثاً للكاتبة اللبنانية جنى الحسن (عن «الدار العربية للعلوم ناشرون»)، وفيها ترسم صورة عن العلاقات الاجتماعية «الفاشلة» التي تتحكم بنا. رواية تأخذك إلى السرد الشيق، لترسم متاهات وتفاصيل، نعاني كلنا من تكسرها علينا. حول روايتها، هذا اللقاء.
لا تبدو «أنا، هي والأخريات» كرواية أولى، تتخطّى ذلك بدون شك، على الأقل هذا ما وجدته. سؤالي الأول، كم استغرقت كتابتها؟
بقيت لسنة متواصلة، أعمل عليها كلّ يوم لأكثر من ثلاث ساعات. بعد 9 أشهر من العمل المتواصل، كانت الرواية جاهزة بنسختها الأولى. يومها شعرت كامرأة وضعت جنيناً للتوّ وأصبت بحالة من توتر وداهمتني رغبة بالتحرك والمشي، فنزلت إلى كورنيش المنارة وبقيت أمشي حتى الواحدة صباحاً، بعدها عدت إلى المنزل وقررت أن ابتعد عنها لمدة شهر كي أعود إليها بعين أخرى وأضيف بعض التعديلات. وهذا ما حدث، فعدت لأعمل عليها لمدة شهرين تقريباً ولم أكن أرغب في تركها لأني كنت أبحث عن كمال ما، موقنة في سريرة نفسي أن الكاتب لا يصل إلى ذلك أبدا، لأنه إذا شعر بذلك فهو يتوقف عن الكتابة.

تفردين مساحة كبرى للشخصيات النسائية، هل كانت رغبتك في تقديم عمل نسوي، إذا جاز التعبير؟

أرفض رفضاً قاطعاً إدراجي مع الكاتبات النسويات، لأني أؤمن بالإنسان أولاً قبل أن أؤمن بالرجل أو المرأة وأؤمن أن داخل كل امرأة شق ذكوري كما في داخل كل رجل شق أنثوي، ولا أتكلم هنا بالمعنى الجنسي بل بالمعنى الفرويدي إذا جاز القول. هذا لا يُعمي لأني لا أؤمن بأننا نعيش في مجتمع ذكوري، ولكن الذكورة المكرسة هنا هي ذكورة سلطوية بمعنى القمع والعنف المباشر وغير المباشر الذي يمارس على النساء والرجال معاً. المؤسف في الحركات النسوية أنهن ضد أشياء كثيرة ولكنهن لا يقدّمن البديل ولا يكفي أن تكون ضد شيء ما كي تصنع التغيير، إنما يجب أن يكون مع شيء آخر في المقابل.
ولكن هذا كله لا يمنع روايتك من أن تأخذ موقفاً، إذ تقدم سيرة امرأة في صعودها وانحدارها لغاية أن تصل إلى الانتحار، كردّ فعل على السلطة الذكورية؟
وهل كان ردّ فعل على السلطة الذكورية فحسب، أم أيضاً على علاقتها بامرأة وهي والدتها؟

ولكن الأم في الراوية، تمثل سلطة الأب، لماذا هذه الأدوار المتقابلة؟

لأن المجتمع يلقي دوماً بثقل التربية على الأم ويُعفي الأب من المحاسبة. الأمهات والصورة المثالية التي تكرست عنهن تختصرهن في نموذج الحنان تارة والتلقين وصقل شخصية الأولاد تارة أخرى. نادراً ما يتم الحديث أو التعاطي مع دور الأب خارج إطار «المعيل»، برغم من أن مجتمعاتنا بحاجة إلى دور عاطفي أكبر للأب بشكل عام، والتواصل مع الأبناء بشكل فعال أكبر.

ولكن الأب في الرواية يمثل فشلاً كبيراً، إذ تربطينه بفشل مشروع إيديولوجي فكري، وكأن فشل مشروعه الأبوي يحاكي مشروعه السياسي الذي كان يعمل له؟

لأني أعتبر أن سلوك الإنسان متداخل بطريقة لا يمكن فصلها في الشق الحياتي الطبيعي عن السلوك المهني على سبيل المثال. تعاطي المرء مع محيطه يعكس سلوكه الداخلي في مكان ما والإنسان بالنسبة إليّ كتلة متصلة بمحاور عدة، والطريقة التي يتصرف بها في محور معين لا بدّ أن تنعكس على أخرى. الإحباط الذي شعر به الأب إثر انهيار جدار برلين رافقه لسنوات عدة من دون أن يتمكن من التحرر منه، لذلك وليخفي عجزه في مكان ما أدرج نفسه في صورة المثقف النخبوي الذي لا يستطيع أن يترجم ثقافته في سلوكه اليومي، وقد انعكس هذا الشعور في العجز والغربة عن زوجته أولاً وأولاده ثانياً وبقي أسير صورة معينة وهي صورة الرافض الذي لا يقوم بشيء لتقرير رفضه.

ليس هذا وضع الأب فقط، كل العلاقات في الرواية تقوم على التناقض، أقصد أن ما من شخصية تجد مع الأخرى أي انسجام وكأنك بذلك تحكمين على هذه العلاقة التي تضم شريكين؟

لأن العلاقات الموجودة في الرواية كانت رد فعل أو تنبيهاً لواقع معين وغاب عنها الحب، بالنسبة إليّ وجود الحب بين أشخاص الرواية كان يلزمه التحرر أولاً لأننا غالباً ما نخلط بين الحب والتملك. التملك والرغبة والاستئثار بالآخر وتشكيل طاقة سلبية في حياته، ليست فعل حب إنما هي أشبه بالخوف، الخوف الذي حوّل الزوج إلى كائن مفترس والأب إلى كائن محبط والأم إلى آلة باردة والعشيق الكائن العاجز عن السعي وراء ما يريد فعله…
والابنة إلى سلسلة من «الأخطاء»… إذا جاز القول.
لأن الابنة كانت تحمل في داخلها كل هؤلاء الشخوص. وهنا تظهر مشكلة هويتنا في مجتمع يسكب أحقاده وآلامه فينا، فنكبر من دون أن نعي حجم الضرر الذي أصاب أرواحنا ومن دون أن نرى الندب الذي يخلفها على ملامحنا.

كل شيء ينتهي بشكل مأساوي ودرامي، لمَ تأخذين الأمور إلى نهايتها دوماً؟

لأني أظن أو أؤمن بالأحرى أن عند كل نهاية، بداية جديدة والنهاية قد تكون مجرد مخاض لأفق أوسع وما قد يبدو مأساوياً ودرامياً قد يكون كسراً لهذه الشرنقة كي يخرج منها. فعل الولادة مثلاً مرتبط بنهاية معينة هي انقطاع الحبل السري بين الأم وجنينها والمخاض يتضمن آلاماً كثيرة ككل شيء نريده أن يثمر في نهاية المطاف. حتى انتحار البطلــة الفاشــل كان بمثابة فاتحة لسلسلة من الكــبت أطلـــقت بعدها الصرخة، صرخة واحدة استطاع دويها أن يرتدّ عليها.

ولكن الدوي المرتد، ينذر بمأساة أخرى؟

لأن لا شيء مجانياً في الحياة للأسف، الشيء الوحيد المجاني في مجتمعاتنا هو الموت..
الخلاص منه، وفق الرواية، تقديم تنازلات لا تحصى، هذي شخصية هالة مثلاً..
التنازلات التي تتحدّث عنها ما هي إلا ضريبة الاختلاف والرفض… اختارت هالة درباً غير متعارف عليه منذ نشأتها الأولى، فقط عاشت علاقة حب متحررة إلى درجة ما لإيمانها المطلق بوهب الذات غير المحدود، ولكنها صدمت لأن الواقع مختلف ولا يتقبل الوضوح والصراحة. هالة كانت تدفع ضريبـــة رغبتــها لأن تكون نفسها فإذ بها تقع في شرك أشد ــضرراً هو التنازل عن الذات رغبة في إيجادها وخلقها من جديد.

هل من سيرة ذاتية ما في هذه الرواية؟

غالبا ما أشعر أن الكاتب ينتقي أشخاصاً في رواياته ليكسيهم من ذاته ويكتسي بهم. هذه ليست سيرة ولا أدري إن كنت أملك الجرأة الكافية لأكتب سيرتي كما هي يوماً ما..

السابق
رد قاسم على تعليق الحريري على خطاب نصرالله
التالي
القاضي صقر صقر يدعي على المولوي وخمسة آخرين بتهمة الانتماء إلى تنظيم سياسي مسلح