انتهاء صلاحيّة «النأي بالنفس»

عندما قرّر لبنان رفع شعار النأي بالنفس عن الأحداث الجارية في سوريا، كان الجميع يفترض أن الأمور تسير نحو حسم سريع. الكل يعرف التورط اللبناني في المسألة السورية، كما هو التورط السوري في المسألة اللبنانية. هذه المرة، كان موقف المسيحيين في لبنان من الأزمة السورية، إعلان آخر المجموعات اللبنانية المبتعدة في استقلالية ما عن سوريا، استسلامها. سبقهم الشيعة الى ذلك ولو من زاوية أن الحكم في سوريا حليف لهم بمعان عدة، علماً بأن السنّة لهم في سوريا الأصل وهم فرع يعيش في برّ الشام.
هي المرة الأولى التي يعترف فيها لبنان كله بأن سوريا هي دولتنا، أو هي بلدنا الكبير. فيها يتقرر مصير الناحية الغربية التي اسمها لبنان، وعبرها يجري الحل الذي له صداه في لبنان. وكلما تعمّقت الأزمة السورية، بدا الترابط مع لبنان الى حدود غير قابلة للفصل. وفي لحظة الحقيقة، لا يعود يميّز لبنان كلام عن حريات في ظل غياب المحاسبة والتغيير. صارت أيامنا معاكسة شكلاً للمعادلة السورية، حيث المحاسبة تقررها فئة دونما حرية وأيضاً بلا تغيير. الآن لم يعد هنا فرق بين الشعوب اللبنانية والسورية. الجماعات عندنا لا تقدر على القيام بشيء. الطائفيون في لبنان سرقوا الجمهور وعلّبوه في خانات مرضية لا تجعله ينتج دولة. وبدعم من قوى خارجية لها حساباتها. وهكذا في سوريا. حيث الطائفيون، أيضاً، عمدوا، وبدعم من جهات خارجية أيضاً، الى سرقة حركة احتجاجية شعبية لها أساسها السياسي والمطلبي والإنساني، وبادروا الى حبسها في سياقات لا تنتج سوى حروب أهلية متواصلة.
اليوم، يقف لبنان على تل منخفض. لا يقدر على المبادرة. لا يملك أصلاً الحجم الذي يمنحه القدرة على التدخل النوعي. الانقسامات هنا صدى للانقسام القائم في سوريا. وما على اللبنانيين الا انتظار ما ستؤول إليه الأزمة هناك. وإذا كان اللاعبون يحسبون ما سيربحون أو يخسرون، بحسب اتجاهات الريح السورية، فإن المجموعات الأهلية بدأت تدفع الثمن من الآن. ليس هناك من تفسير أوضح لما يجري في طرابلس، الآن، سوى أنه حلت لحظة التفاعل الكلي مع الأحداث السورية. السلفيون الذين يريدون رفع مستوى مساهمتهم في المعركة ضد النظام هناك، يواجهون هنا خصوماً لا يفترض أن يوجدوا في هذه اللحظة. بعض بقايا الدولة اللبنانية (الجيش مثلاً) ومجموعات أهلية مصنفة في الطرف الآخر (العلويون في جبل محسن) وبالتالي، فإن ما جرى ويجري وسيستمر حتى إشعار آخر، هو السعي من قبل هذه المجموعات ــــ مدعومة بحاضنة شعبية أهلية اسمها اليوم «تيار المستقبل» ــــ لأداء الدور المباشر في دعم معارضي النظام في سوريا. بينما ينظر هؤلاء الى الطرف الداعي للنأي بالنفس، على أنه طرف مستفيد من نجاح النظام في ضرب معارضيه. وبالتالي فإن الحركيين من الناشطين شمالاً، سواء كانوا حزبيين مدنيين، أو متديّنين، أو مسلّحين أو عمالاً سوريين، هم الآن في مرحلة الخروج والتفلت من كل الضوابط التي فرضتها لعبة «النأي بالنفس». وهذا سيتسبب على نحو طبيعي في مواجهة لا أحد يعرف وجهتها. هكذا يُفهم اعتراض هؤلاء على اعتقال شخص بتهمة تهريب أسلحة أو انتحاريين الى سوريا. وهكذا يُفهم السعي الى تحويل الاشتباك مع الدولة (الجيش) الى اشتباك مع جماعة النظام (العلويين). وفي الحالتين، ثمة عمل دؤوب لرفع مستوى العصبية والاستنفار. والعنوان واحد هو الصراع في سوريا.
في منطقة أخرى، حيث التماس الأهلي مع سوريا قائم أيضاً، على حدود البقاع الشمالي مع سوريا، اندلعت معارك، بعضها أعلن عنه وبعضها الآخر ظل مكتوم القيد. وهي إشكالات تحصل فعلياً بين مجموعات لبنانية تنتمي الى الكتلة الحليفة للنظام (السكان الشيعة) ومجموعات أخرى، سورية ولبنانية، معارضة للنظام. تحصل المواجهات كأنها تجري داخل سوريا. الأدوات هي ذاتها: نار ورصاص وعمليات خطف وخلافه. وحتى لا يلتبس الأمر على أحد، يخرج رئيس بلدية عرسال، الموالي لتيار «المستقبل»، ليعلن بالفم الملآن، أنه، من الآن فصاعداً، سيكون كل مواطن من البلدة حاملاً سلاحه وسيواجه بالنار من يحاول توقيفه أو اعتقاله.
طبعاً، لا يشرح علي الحجيري سبب تعرض المواطن من عرسال للملاحقة أو محاولة الاعتقال، لكن الكل يعرف أنه يقصد محاولة ثنيه عن دعم المعارضة السورية بالمال والسلاح وغير ذلك. هذا العقل عادي ومنطقي وله مبرراته عند هذا الفريق. وبالتالي، فإن محاولة منع هذا الدعم، ستعني المواجهة. وهكذا تفتح تلك المنطقة، كما هي حال عكار وطرابلس، وبعض مناطق البقاع الغربي، لتكون ساحة تجاذبات ثم مواجهات، على خلفية أنها باتت في قلب الأزمة السورية لا على هوامشها. والرسالة الأكثر تعبيراً في ما يجري، هو أن اللبنانيين المنقسمين في هذه المناطق، إنما يعلنون بانخراطهم الكامل في الأزمة السورية، أنّ زمن الانتظار لم يعد نافعاً، وأن الأمور ليست قابلة لحسم سريع. وبالتالي فإن الانخراط صار واجباً لأن فيه نصرة لهذا الفريق أو ذاك.
في سوريا، دخل الجميع نفق الحرب الأهلية. وكل نجاحات النظام في منع تشكل مراكز قوة لخصومه، سياسياً أو عسكرياً، لا تكفي للدخول في حل. لأن الحل الحقيقي يتطلب خطوات عملانية موازية للعمليات الأمنية من جانب النظام. والمطلوب سيظل هو نفسه، أي العمل على إشراك السوريين في حكم بلادهم. ولا يمكن الحكم في سوريا أن يختار المعارضة كما يرغب. عليه ألا يكرر تجربة جماعة الطائف في لبنان، عندما قرروا هم، وبدعم سوريا، من يمثل المعارضة المسيحية طوال 15 سنة. وعلى النظام في سوريا الإقرار بالمعارضة كما هي، لا كما يريدها هو أن تكون. وهذا يتطلب خطوات لا تقتصر على ما أعلن من قوانين ومراسيم، لأن لهذا النفق عادات وتقاليد وطقوساً دموية، وهو موصول بنفق لبنان الذي يبرد أحياناً ويشتعل أحياناً أخرى.  

السابق
لأنه يملك وحده السلاح والقرار له “حزب الله” مع الانتخابات في موعدها بلا شروط
التالي
نهاية مرحلة قلب النظام السوري وبداية محاربة الإرهاب