تنشيط السياحة الدينية الداخلية في الجنوب… والأسباب سورية

بعد ابتعاد طالت مدته، تُصوّب البوصلة باتجاه الداخل اللبناني على صعيد السياحة الدينية والتراثية وهي مرشحة للاستمرار في ظل الوضع الأمني المتوتر في سوريا والقابل للانفجار اكثر في ظل عدم الوصول الى تسوية ترضي المعنيين والدول الاطراف ذات المصالح المتشابكة اقليميا.
كل هذا التوصيف للوضع السوري لا يعني اللبناني العادي بشيء سوى لجهة عدم استطاعته السفر الى سوريا برا للاستجمام والسياحة والتبضع والزيارة وممارسة الطقوس الدينية، والامر سواء لدى المسلم والمسيحي حيث تكثر الاماكن الدينية والمقامات المقدسة لدى الطرفين في سوريا.

تتحسر مثلا (أم حيدر حيدر) على الأيام الغابرة حيث كانت لا تتوان عن القيام برحلة اسبوعية ترافقها فيها قريباتها وصديقاتها لسبب او دون سبب. وهي التي تتحجج بالزيارات المستمرة الى الشام بزيارة مقامات أهل البيت، والتبضع وتناول طعام الغداء. فكل شيئ بالنسبة لها في الشام مميز ولا يمكن توافره هنا في لبنان.
تحمل معها من هناك الهدايا والألبسة والمونة واللحوم، وتستجّم في أسواق الحميدية والسيدة رقية بنت الحسين وغيرها. هذه الزيارات المتكررة كانت توجتها بإقامة لحوالي الشهر خلال عدوان تموز 2006 حيث تميّزت معاملة السوريين لها ولعائلتها الكبيرة.
وهي، ورغم مضيّ اكثر من سنة على الأزمة السورية الا انها لم تسحب من دماغها موضوع الزيارات المتتالية ابدا، بل انها حاولت في احد العطل الاسبوعية مؤخرا السفر بالتاكسي مع بعض الصديقات الا ان ثلاثة انفجارات دفعة واحدة في الشام جعلتها تتراجع مؤقتا.

لم تخف ولم تتباطأ، ولها أعذاراها في ذلك الحب اللامفهوم. وهي التي تبرره بالعامل الاقتصادي رغم انها تتكلف على زياراتها المتكررة اكثر مما توفر جراء فرق العملة بين البلدين الجارين.
المشكلة ليست هنا. المشكلة انه بدأت تظهر علامات اعادة تصويب باتجاه المقامات الموجودة في لبنان بدءا من أقصى الجنوب في الناقورة وصولا الى أقصى الشمال، مرورا بالبقاعين الشمالي والغربي.
لقد بدأت بعض الجمعيات الاهلية بتنظيم رحلات داخلية وبأسعار معقولة جدا تعويضا عن خسارة السفر الى الشام في محاولة لإسباغ طابع القداسة على هذه الرحلات حيث بدأت العائلات تتعرف على مقامات دينية لأنبياء ورُسل منتشرة في الجنوب كمقام النبي يونس، ومقام النبي ساري، ومقام النبي شمعون الصفا تلميذ المسيح عليه السلام، ومقام بنيامين أخو النبي يوسف الذي عشقته النساء اكثر مما عشقته زليخا بعيد بث مسلسل يوسف الصدّيق.

اضافة الى مقامات لا تُعد ولا تحصى منتشرة في القرى والبلدات التي غالبا ما يتفاجأ الزوار بجماليّة القرى اللبنانية (النائية) لمن لا يعرفها بحيث يبدو الأمر كأنه اكتشاف جديد.
هذا الغياب عن معرفة قرانا وبلداتنا وأماكننا السياحية والتراثية والمقدّسة يفضح علاقة اللبناني بأرضه أولا، وبأخيه اللبناني الآخر ثانيا. فكم يبلغ عدد زوار أجران قانا مثلا حيث مرّ السيد المسيح(ع)؟

ويُظهر هذا الاستلشاق الحاد بما نملك من ثروات مقدسة بالنسبة لجميع الديانات والطوائف ان اعادة تصويب النظر نحو الداخل اللبناني يفيد في موضوع إحياء بعض المهن المتواضعة والأسواق التجارية والحرف التراثيّة ومتعلقاتها، اضافة الى احياء حركة التنقل والثقافة والتواصل وانتشار سياسة الضغط لأجل انماء المناطق البعيدة، والاهتمام بطرقاتها وشوارعها واعادة الحياة الى بعض البلديات النائمة على صوت انطلاق صفارة الانتخابات في الـ2013.
رب ضارة نافعة هنا، لكن الأوضاع الأمنية في سوريا ساهمت من جهة أخرى في معاونة العمال السوريين لجهة جمع الشمل مع عوائلهم التي كانت بعيدة عنهم والتي وجدت لها في لبنان ملجأ مؤقتا لحين استجلاء الامور ووضوحها. وربما تساهم في التخفيف من نسبة الاعتداءات الجنسيّة والمادية المنتشرة بقوة في القرى والبلدات اللبنانية جراء وحشيّة العيش المفرد في الهنغارات الحديدية، والابتعاد عن الأسرة والعائلة.
ان انطلاق الروح للسياحة الداخلية نوع من اعادة الالتفاف الى كنوزنا، ولو اضطراريا، وهي السبيل ايضا الى تنمية دور الأدلاء السياحين شبه المعطلين عن اعمالهم، والذين تُخرّجهم كليّة السياحة سنويا دون تأمين سوق عمل داخلي.
وعلى امل التنسيق بين المؤسسات الدينية والمشرفين على المقامات التراثية والدينيّة في مختلف المناطق، نجد انه من الضروري ان ينهض هذا القطاع لعل التعرف على اللبناني الآخر يخفف من حجم الهواجس والمخاوف والأوهام والاعتقادات الخاطئة في الإتجاهين.
ويوجب اعادة النظر في عملية ترميم بعض الاماكن الدينية وتنظيفها وترتيبها وتعيين حراس عليها من أجل منع تعديات الزوار، والاعتناء بنظافتها، وتأسيس اماكن راحة للزوار ومطاعم، اضافة الى توفير (كيوسك) خاص بالتذكارات المتعلقة بكل مقام ومزار.
والأهم هو الإبتعاد عن إبراز أية شعارات حزبية داخل هذه الاماكن منعا لأي توتر او اخافة او استفزاز في ظل الانقسام المذهبي والسياسي الذي من المؤكد انه سيؤثر على صيت اي مقام او مزار.

السابق
قتل جاره انتقاماً.. لأسماكه
التالي
أمطار غزيرة… وعلة المياه مستمرة جنوبا