ماذا خبّأ حُسن نيّة المعارضة؟

حلّ الإنفاق الإضافي مؤجلٌ في مجلس الوزراء حتى إشعار آخر. إلى أن تخرج كتل الغالبية الحكومية من خلافاتها على الملفات الأخرى، ومن تفاقم ردود الفعل الشخصية والعداء الذي يستحكم تدريجاً. لكن قوى 14 آذار أطلّت كي تبدو «شيخ صلح» بين متناحرين يقدّم تسوية متعذّرة
إلى أن تقرّر الغالبية الحكومية أي حلّ تريده لملف الإنفاق المالي في ظلّ انقسامها حياله وتشتّت خياراتها، تقف المعارضة على طرف نقيض منها، وتبدو أكثر ابتهاجاً _ وبشماتة أكبر _ بفريق لا يصنع أعداءه وخصومه إلا في صفوفه. بالتأكيد لن تجد قوى 14 آذار مرحلة مثلى وعدواً أمثل كالغالبية الحالية التي انتزعت منها الحكم، ولم تتمكن من أن تحكم.

عندما تبنّت الأقلية اقتراح رئيس كتلة المستقبل النيابية الرئيس فؤاد السنيورة الإجازة لحكومة الرئيس نجيب ميقاتي، بقانون من مجلس النواب، تشريع إنفاقها عن عام 2012 ثلاثة أشهر تنتهي في حزيران المقبل إلى حين إنجاز مناقشة مشروع قانون موازنة 2012، أوحت بأنها تقدّم للغالبية مخرجاً للمأزق الذي تتخبطّ فيه، وتفادياً لشلّ الإدارات والقطاعات الرسمية عن مدّها بالمال. وقرنت هذا المخرج بالدعوة إلى فصل قوننة الإنفاق الإضافي عن السنوات الماضية عن التدقيق في قطع الحسابات تلك السنوات، وقوننة مجمل الإنفاق الإضافي بـ 22 مليار دولار لأربع حكومات متعاقبة بين عامي 2006 و 2011 تولى السنيورة اثنتين منها، والرئيس سعد الحريري الثالثة، وميقاتي الرابعة .
كَمَنَ موقف قوى 14 آذار في دعم اقتراح السنيورة، في المعطيات الآتية:

1 _ تنظر المعارضة إلى الإنفاق المالي بين عامي 2006 و2011 على أنه حصل خلافاً للقانون، وبطريقة مشابهة طوال ست سنوات. عندما أقرّ مجلس النواب عام 2005 موازنة تلك السنة بـ 10 آلاف مليار ليرة، أضحى هذا المبلغ رقم الإنفاق تبعاً للقاعدة الاثني عشرية في غياب موازنة عامة. في آب 2006 كانت الحكومة الأولى للسنيورة قد أنفقت هذا المبلغ من دون أن تنتهي السنة المالية، وباتت في حاجة إلى استكماله. فقرّرت _ بعدما كانت قد أقرّت موازنة 2006 في مجلس الوزراء وتعذّرت إحالتها على مجلس النواب من جرّاء إقفاله _ متابعة إنفاقها عملاً بأرقام الموازنة الجديدة غير المصدّق عليها في البرلمان. كذلك فعلت في إنفاق أعوام 2007 و2008 و 2009، وكذلك حكومة الحريري عام 2010. عندما تخطى الإنفاق في هذه السنوات، بدءاً من آب أو أيلول، 10 الآف مليار ليرة التي حددتها القاعدة الاثني عشرية المستمرة منذ عام 2006، أكملت حكومات السنيورة والحريري الإنفاق وفق الأرقام المقدّرة في موازنات هذه السنوات التي أقرتها تلك الحكومات ولم ترسل إلى مجلس النواب. فإذا به يجري بلا إجازة من مجلس النواب، ويتجاوز السقف الذي كانت قد حددته القاعدة الاثني عشرية.
مع استعادة الحياة الدستورية على أثر اتفاق الدوحة عام 2008، أقرت الحكومة الثانية للسنيورة موازنة 2009 وأحالتها على مجلس النواب الذي لم يتمكّن من مناقشتها بسبب استعجال الالتهاء بالانتخابات النيابية عامذاك. فبقيت البلاد بلا موازنة، واستمر الإنفاق الإضافي خاضعاً لحلّين يكمّل أحدهما الآخر: أولهما العمل بالقاعدة الاثني عشرية حتى 10 آلاف مليار ليرة، وثانيهما سدّ النقص الباقي بالاعتماد على الأرقام المقدّرة في الموازنة المقرّة في مجلس الوزراء وغير المحالة أو المقرّة في مجلس النواب.
هكذا بلغ الإنفاق خارج سقف القاعدة الاثني عشرية 11 مليار دولار بين عامي 2006 و2009، أضف 5 مليارات دولار عام 2010 إبّان حكومة الحريري التي كانت قد أقرت بدورها موازنة 2010 وأحالتها على المجلس، فلم يتمكّن من مناقشتها وإقرارها. عندئذ أصبح الرقم 16 مليار دولار.

2 _ تبعاً لوجهة نظر المعارضة، سلكت حكومة ميقاتي، رغم وضع وزيرة المال في حكومة الحريري ريا الحسن موازنة 2011، خطاً مختلفاً للإنفاق اتسم بدوره بشائبة، هي أن حكومة ميقاتي قرّرت إقراض الوزارات كي تنفق على حاجاتها خلافاً للقانون الذي يحصر الإقراض بإحدى حالتين: أولى قصرها على المؤسسات العامة القادرة على تسديد الدين، وثانية تعيين حاجات عدد من الوزارات للوازم تنقصها فتقرضها مبالغ صغيرة محددة.
وفي اعتقاد المعارضة أن حكومة ميقاتي استندت في هذا الإنفاق عام 2011 إلى سابقة تصفها بأنها مخالفة للقانون، إلا أن ظروفاً ملتبسة وصعبة حتّمتها عام 1989، في ظلّ انقسام البلاد بين حكومتي الرئيسين سليم الحص وميشال عون. عمد الحص، تحت وطأة الحاجة إلى الإنفاق في إدارات المناطق الغربية آنذاك ووزاراتها، إلى إجازة منح سلفات خزينة غير محصورة بالمؤسسات العامة طوال سنتين، سرعان ما ألغيت عام 1991 بعد إعادة الاستقرار وبناء الدولة في مرحلة اتفاق الطائف. بيد أن السابقة بقيت عالقة في الأذهان، وفي بعض النصوص القانونية، فأعيد إحياء المخالفة القانونية التي رتبت إنفاقاً إضافياً بـ 8900 مليار ليرة بلا مسوغ قانوني باتت تمثل اليوم عبء مأزق 8 آذار، على غرار العبء المماثل الذي أثقل على قوى 14 آذار بإنفاقها غير القانوني 16 مليار دولار.
إلا أن المعارضة تقلّل وطأة مخالفتها بالقول إن إنفاقها مشوب بالعيب أكثر منه غير قانوني: نصف الإنفاق عن سنوات 2006 ــ 2009 جرى وفق القاعدة الاثني عشرية، والنصف الآخر استند إلى موازنة صدّقَ عليها مجلس الوزراء وتعذّرت إحالتها على مجلس النواب الموصد الأبواب. بذلك عوّل النصف الآخر من الإنفاق على قرار لمجلس الوزراء مستمد من أرقام مقدّرة في الموازنة.
تميّز المعارضة أيضاً بين المخالفتين: حكومة 14 آذار تجاوزت السقف تحت عنوان اعتمادات، وحكومة 8 آذار تخطت السقف تحت عنوان سلفات.

3 _ ما دام الجميع قفز فوق القانون في الإنفاق، تقترح المعارضة التمييز بين قوننة الإنفاق المنوط بمجلس النواب، والتدقيق في قطع الحسابات المنوط بديوان المحاسبة، وتفادي الخلط بينهما أو دمجهما في لجان تحقيق نيابية أو قضائية. تلاحظ كذلك أن المطلوب بداية تصحيح الوضع القانوني بخطوات متدرّجة أو متوازية، بدءاً بتشريع إنفاق 2012 مدة ثلاثة أشهر حتى إنجاز موازنة هذه السنة وإقرارها في مجلس النواب، تفادياً لتكرار تجربتي الإنفاق غير القانوني للطرفين، وتالياً تمكين الحكومة من تسيير الإدارات. وترى في تشريع هذا الإنفاق بإجازة من مجلس النواب مخرجاً يُعوّض الاقتراحين المتداولين أمام مجلس الوزراء، واللذين يصطدمان بتعذّر الاتفاق عليهما أو على أحدهما بين أفرقاء الغالبية الحاكمة: مشروع قانون جديد بإنفاق إضافي بـ 8900 مليار ليرة بغية قوننة إنفاق 2011، ومرسوم يصدر عن مجلس الوزراء يعطي وزارة المال سلفة خزينة بقيمة 4900 مليار ليرة لتغطية إنفاق 2012 حتى نهاية تموز المقبل ريثما تنجز موازنة هذه السنة.
وتنظر المعارضة إلى هذا الاقتراح على أنه مخرج ملائم من مأزق يمسي يوماً بعد آخر أكثر تعقيداً حيال معالجة مشكلة الإنفاق الإضافي أو تراكم الأزمات والنزاعات الناشبة في فريق الأكثرية الحكومية بين أكثر من طرف، وتكاد تتخطى الخلاف السياسي إلى ردّ الفعل الشخصي. ينتقل التناحر تدريجاً من الأزمة المالية إلى سواها من الملفات العالقة المتصلة بالتعيينات وقانون الانتخاب، فضلاً عن انهيار العلاقة السياسية والشخصية بين رئيس الجمهورية ميشال سليمان والرئيس ميشال عون، وتحوّل سجال عون مع جنبلاط إلى شتائم وإهانات متبادلة، وتوزّع متاريس الخلاف في مجلس الوزراء بين الثلث المعطّل الذي يمثّله سليمان وميقاتي وجنبلاط، والغالبية الحكومية التي يمثّلها ثلاثي آخر هو تكتل التغيير والإصلاح وحركة أمل وحزب الله .

4 _ تقول المعارضة إن خيار التسوية في فريق الغالبية الحكومية غير قابل لإبصار النور:
_ يرفض رئيس الجمهورية تحت وطأة الضغط إصدار مشروع القانون المعجل بـ8900 مليار ليرة عملاً بالمادة 58 من الدستور بعد انقضاء مهلة 40 يوماً من مناقشته في البرلمان.
_ يرفض ثلاثي الغالبية مشروع قانون بديل من المشروع المعجّل ما دام الأخير لا يزال في مجلس النواب تفادياً لثنائية نصّين في موضوع واحد، ما يقتضي بالرئيس استخدام صلاحيته الدستورية لإصداره. ويرفض كذلك المرسوم الذي أعدّه وزير المال محمد الصفدي بسلفة خزينة بـ 4900 مليار ليرة عن إنفاق 2012 ريثما تقرّ الموازنة. ويتمسّك هذا الثلاثي بتشريع إنفاق 2011 كي يجري على أساسه إنفاق 2012. في غياب الموازنة العامة يصبح سقف الإنفاق 18 ألفاً و900 مليار ليرة (ضم إنفاق 8900 مليار إلى 10 آلاف مليار عملاً بالقاعدة الاثني عشرية منذ 2005). وهو يريد أيضاً تجاهل قوننة إنفاق 16 مليار دولار كي يبقى سيفاً مصلتاً على رأس قوى 14 آذار واستخدامه إحدى أدوات المواجهة الضارية مع اقتراب انتخابات 2013.
ــ يتمسّك وزير المال بمرسومه، والنائب وليد جنبلاط بإبراء ذمّة مزدوج لإنفاقي 16 مليار دولار و8900 مليار ليرة.

اقتراح طوباوي
لوهلة يعكس اقتراح المعارضة انطباعاً ساذجاً بهلعها على الأزمة المالية والمأزق الذي تتخبّط فيه الغالبية، العاجزة عن الاتفاق على سبل تشريع انفاق 2011، وغير الراغبة في تشريع إنفاق السنوات السابقة، والممتنعة عن إنجاز موازنة 2012. يبدو الحلّ طوباوياً في الظاهر عندما يشير إلى الخلاصة الآتية:
ــ تعزيز وجهة نظر رئيس الجمهورية في النزاع الناشب مع ثلاثي الغالبية الحكومية، وتشجيعه على عدم إصدار مشروع القانون المعجّل عملاً بالمادة 58. وتصف المعارضة إصدار المشروع بأنه خطأ قاتل.
ــ تشريع إنفاق 2012 طوال ثلاثة أشهر بإجازة من مجلس النواب شرط اقترانه بإحالة موازنة 2012 على مجلس النواب، وفصله عن قوننة الإنفاق الإضافي بين عامي 2006 و 2011.
ــ تثبيت المخالفة القانونية في الإنفاق الإضافي عن 2011 بمعالجته على نحو مستقل عن إنفاق 2012، وتعطيل إصدار الحكومة بمرسوم في مجلس الوزراء سلفة خزينة بـ4900 مليار ليرة حتى نهاية تموز.
ــ تجد قوى 14 آذار في مناقشة الموازنة إحدى أقوى الحجج التي تمكّنها من تهشيم الحكومة وصورتها ومحاسبتها على سياستها المالية ومراقبة إنفاقها وجباية وارداتها عبر تفنيد بنودها. يختلط المالي بالسياسي، ويفسح في المجال أمام مسألة سياسية هي البديل الوحيد الممكن من تعذّر إسقاطها في الوقت الحاضر.
ــ ليس في وسع الأقلية سوى التظاهر بحسن النيّة. لا تملك المواجهة مع الحكومة في الشارع ولا في مجلس النواب. تفتقر إلى أكثرية إطاحتها، وتتوجّس من أي خطوة تتيح لها التقاط أنفاسها، وليس في إمكانها سوى تصعيد الموقف السياسي في وجهتين: ممارسة الضغوط عليها لإسقاطها كي تخلفها حكومة حيادية تشرف على انتخابات 2013، وإرسال إشارات تعاون في الظاهر تبطن دفع الحكومة إلى مزيد من التخبّط والتناقض: تارة بدعم سليمان، وطوراً بتحييد ميقاتي وأحياناً رئيس المجلس نبيه برّي، ودائماً بتبرير مواقف جنبلاط الأكثر اقتراباً من قوى 14 آذار، والمضي بلا توقف في رفع نبرة الانتقاد والتشهير بعون.

السابق
طريق الشام سالكة
التالي
لم لا يصل الربيع العربي الى الجزائر؟