ساركوزي هزم نفسه في المناظرة

تعيدني هذه المقارنة خمس سنوات الى الوراء في تلك المناظرة الكبيرة التي جرت بين نيكولا ساركوزي وسيغولين رويال مرشحة الحزب الاشتراكي يومها. كانت رويال أقرب الى وضع ساركوزي في المناظرة مع فرنسوا هولاند. كانت عنيفة في الكلام الشخصي بينما هو ظهر أهدأ وأوضح أمامها. هنا محاولة توصيف وتقويم لأداء المرشّحين الرئاسيّين ساركوزي وهولاند خلال مواجهة ليل الأربعاء المنصرم في الشكل والمضمون.

لم يكن الرئيس المرشح نيكولا ساركوزي في المناظرة المباشرة مع خصمه الاشتراكي فرنسوا هولاند مجرد صاحب الأسلوب الهجومي في النقاش، وهو ما اعتاد الفرنسيون واعتدنا عليه من جانبه سواء خلال ولايته الرئاسية او قبل ذلك كوزير للداخلية في عهد سلفه الرئيس جاك شيراك.
… كان ساركوزي، منذ مداخلته الأولى في المناظرة التي أُعطي خصمُه دورَ افتتاحِها، متوتراً بعض الشيء، سواء في طريقة جلوسه احياناً على الطرف الأمامي للكرسي أو في تعابير وجهه التي كانت تتراوح بين الانزعاج والغضب والعنف الكلامي الشخصي. بينما كانت المفاجأة تتكرّس كلما بدا فرنسوا هولاند رغم ضراوة انتقاداته السياسية هادئاً يشغل بجلسة مستقيمة كامل مقعده ويجيب دون تعابير انفعالية مع أن الطاقة الصوتية لساركوزي أقوى حضوراً وتواصلا.
لهذا – وهنا كانت المفاجأة الشخصية الأهم في المناظرة – بدا فرنسوا هولاند أكثر رئاسية من ساركوزي الذي هو الرئيس! فيما كان التوتر الخفي ولكن الملموس لساركوزي يجعله يظهر خصوصا في القسم الثاني من الساعتين ونصف الساعة، وهي مدة المناظرة، وكأنه هو المعارض لـ"الرئيس" هولاند. أضف الى ذلك أن التعابير الشخصية الحادة التي كررها ساركوزي مثل "كذب، افتراء، نكتة رخيصة" جعلت خصمه يبدو أكثر قدرة على ضبط النفس دون ان يفقد لحظة واحدة تصميمه الهجومي في محتوى النقاش وهذه أيضا ميزة رئاسية لعل ساركوزي خسرها في تلك اللحظات قياساً بخصمه.
تعيدني هذه المقارنة خمس سنواتٍ الى الوراء في المناظرة الكبيرة التي جرت بين ساركوزي وسيغولين رويال مرشحة الحزب الاشتراكي يومها. كانت سيغولين رويال أقرب الى وضع ساركوزي في المناظرة مع هولاند. كانت عنيفة في الكلام الشخصي بينما هو ظهر أهدأ وأوضح أمامها. بهذا المعنى انتقم هولاند أخيرا، من حيث يريد أو لا يريد، لمساكِنَتِهِ السابقة الجميلة وأم أولاده التي تخلّت عنه في بيانٍ مقتضب و قاسٍ بعد فترةٍ من خسارتها لمعركتها الرئاسية. وأذكر، إذا أسعفتني الذاكرة، أنها قالت في بيانها يومها ما حرفيته تقريبا: "لقد طلبتُ من هذا الرجل (هولاند) الخروج من حياتي الشخصية". وهي اليوم ربما لحسابات سياسية، أو تحت ضغط أبنائها الذين هم أبناؤه، ملتزمةٌ بقوة وتصميم بدعمه

قد تكون نتائج الجولة الانتخابية الاولى التي جاء فيها ساركوزي وراء هولاند في نسبة الأصوات قد أثّرت على معنوياته الشخصية كما جاء اعتماده أسلوب التجريح الشخصي ليساهم في اهتزاز صورته الرئاسية. وقد لفتني صباح امس الاول أنه حتى "الفيغارو" المؤيدة لساركوزي لم تجرؤ على اعلان تقدمه في المناظرة وإن كانت طبعا لم تعترف بتقدم خصمه بينما "اللوموند" و"الليبراسيون" سجلتا نقاطاً عديدة لصالح هولاند .
هذا في الأداء الشخصي… الآن ماذا عن المضمون؟
حقق كلٌ من الاثنين نجاحات موضعية وان كانت غير كافية لحسم حصيلة المواجهة لأي منهما:
هولاند ربما ارتبك في ملف الهجرة خصوصاً في موضوع مراكز حجز المهاجرين غير الشرعيين عندما أخذ عليه ساركوزي أنه أدلى بتصريح يعتبر فيه أن مراكز الاحتجاز يجب أن تكون الاستثناء، وكأنّ موقفَه متخاذلٌ لجهة التصدي للهجرة غير الشرعية. لكن الفكرة الهجومية الأهم التي نجح فيها هولاند عبر تكرارها مرارا هي تقديم ساركوزي على أنه الرئيس المتواطِئ مع كبار الأغنياء لاسيما في "إعفائهم" من الضرائب وهو أحيانا ما جعل ساركوزي "يشتمه" بالمفتري والكاذب. ومرةً دار حوارٌ سريعٌ عندما قال له هولاند أن الفارق بينهما أنه هو، أي هولاند، يريد تخفيف الضرائب على الفقراء بينما "أنتَ تريد تخفيف الضرائب على الأغنياء" فرد ساركوزي بسرعة خاطر أيضا ان الفارق بينهما هو"أنكَ تريد تخفيف عدد الأغنياء بينما أنا أريد تخفيف عدد الفقراء" فرد هولاند بالسرعة نفسها "لكن في عهدك زاد الأغنياء غنىً وزاد الفقراء فقراً". صحيح أن هذا التقاذف كلامٌ عام جدا وغير موثّق من الجهتين إلا انه في مناظرات من هذا النوع يكون شديد الأهمية في مدى الانطباع الذي يتركه أمام الجمهور الهائل الذي يشاهد كدليل على مدى ذكاء وسرعة بداهة المساجِل. ومن المؤسف أن الحوار البنّاء في هذه الحالات يصبح مستحيلا طالما أن احتمال القبول بالرأي الآخر غير ممكن انتخابياً.
لم يقدِّم هولاند وبشكلٍ عنيد لساركوزي أيَّ اعتراف تقريباً بأي إنجاز خلال رئاسته. لم يعترف له أنه عيّن اشتراكيين او قريبين منهم في مواقع وزارية وإدارية على الأقل في القسم الأول من ولايته. اعتبره رجل انقسام لا تجميع في الحياة العامة الفرنسية فرد ساركوزي بأن هولاند "رجل العودة الى اليسار" فقط . وهكذا … صِدامٌ على طول خط النقاش في ملفات البطالة والقضاء والتعليم والمفاعل النووي للطاقة الكهربائية وتطوير الطاقة البديلة. الموضوع الوحيد الذي اتفقا عليه هو موضوع قانون منع ارتداء البرقع الاسلامي عندما أعلن هولاند التزامه الكامل بتطبيقه وهو القانون الذي اُقر في عهد ساركوزي.
في موضوع الدين العام صحّح ساركوزي لهولاند رقمه القائل بأن حجم الدين العام الفرنسي زاد في السنوات الخمس الأخيرة أي في عهد ساركوزي ستماية مليار أورو فأكد ساركوزي أن الزيادة هي خمسماية مليار ولكن هولاند أصر على رقمه.
النموذج الالماني كان موضع إعجاب الاثنين. هولاند من جهةِ تأكيدِ تَقَدُّمِه في معدلات النمو وخلق الوظائف والحدّ من العجز والبطالة، وساركوزي في تأكيده على أن هذا النموذج هو عكس ما يقترحه الاشتراكيون للإقتصاد الفرنسي. كما أن النقطة التي ركّز عليها ساركوزي هي سقوط سياسات الحزبين الاشتراكيّين في اسبانيا واليونان بينما انتبه هولاند في الجزء الاخير من المناظرة لكي يذكر سيلفيو برلسكوني الايطالي كصديق لساركوزي . وكان ساركوزي قد أثار بخبث اسم دومينيك ستراوس كان الذي انكشف سلوكه في الفضائح الجنسية المعروفة إلا أن هولاند سأله مرتين متتاليتين: قل لي كيف كنتُ سأعرفُ عن حياته الشخصية؟
لا شك أن نقطة ضعف ساركوزي "الشعبوية" هي تجاه الفئات الدنيا من المجتمع الفرنسي كونه قام بعدد من الإصلاحات البنيوية التي تتطلبها معالجة الأزمة الاوروبية الاقتصادية العميقة وهو ما كان يجعل من السهل على هولاند أن يأخذ عليه الكلفةَ الباهظة اجتماعياً لهذه الاصلاحات. هذه وضعية كانت ستكون صعبة على أي رئيسٍ للجمهورية مرشحٍ للرئاسة وليس على الرئيس ساركوزي فقط. إنما لم يكن ساركوزي في المناظرة موفَّقاً في شرح متطلبات التحديث في الاقتصاد الفرنسي وكلفتها العالية حتى لو جاء على ذكر العلاقات الاقتصادية مع الصين والولايات المتحدة لأنه انشغل بالاشتباك التحاججي التقني الذي سيطر عمليا على المناظرة فكنا أمام كفاءتين تكنوقراطيّتين رفيعتي المستوى في الطبقة السياسية الفرنسية، حتى أن أي إحصاء لعدد المرات التي استخدم فيها المرشّحان كلمة "تحديث" قد يُظْهِر أنها كانت قليلة جدا. وبما أننا مع ساركوزي كنا نتوقّع هذه المعرفة المركّزة بالتفاصيل من رئيسٍ للجمهوريةِ ممارسٍ ولا تزال الملفات أمامه ساخنة، فإن المفاجأة أتت من المرشّح الاشتراكي الذي لم يتسلم حقيبةً وزارية كل حياته – وهو ما أشار إليه ساركوزي تشكيكاً في قدراته- ولكن هولاند أظهر قدرةً واضحة في تناول الملفات التقنية بشكل دؤوب خلال كل المناظرة وهو ما لم يكن متوقَّعا الى هذا الحد رغم سمعته المعروفة كمساجل سياسي محترف.
قد لا تكون هذه المناظرة أضافت نسبة جديدة من الاصوات لهولاند ولكن مكسبه يكمن في أن الذين أيَّدوه في الجولة الاولى قبل أسبوعين سيذهبون للإقتراع لصالحه يوم غد الأحد وقد أصبحوا أكثر ثقة في امكانيّاته كمرشح لمنصب الرئاسة في جمهورية ذات نظام رئاسي. لكن هل يكفي هذا لتوقُّع النتائج؟
طبعا لا. تعززت حظوظ هولاند انما دعونا نرَ مساء غدٍ الاحد اذا كان ساركوزي قد استطاع ان يُقنع نسبة كافية من اصوات مارين لوبن "الزراعية" الكبيرة لكي يضمن الفوز او "يضمن" نسبة خسارة غير مهينة؟

السابق
تجميل الصورة
التالي
مواقف مهمة منتظرة للحريري في مهرجان المستقبل غداً