عبد الحليم حافظ في ذكرى رحيله الخامسة والثلاثين

من الصعب بمكان استعادة أفلام عبد الحيلم حافظ كجزء من تاريخ سينمائي أو صناعة رائجة. كما أنه من الصعب أيضاً استخلاص قيمة فنية أو سينمائية ما منها بعد كل هذه السنوات، ليس لأنها كانت أقل شأناً من غيرها أو أكثر تفوقاً منها بل على العكس من ذلك تماماً إذ أن أمثلة لا تحصى يمكن أن نسوقها في معرض المقارنة حيث إن "النوع" (Genre) الذي قدّمه "حليم" والذي يمكن أن نتفق مجازاً عليه أو أن نسلّم به على أنه "الغنائية الرومنسية"، هذا النوع الذي ولد مع السينما المصرية صبغ أفلامها لنحو أربعة قرون وكان النوع الذي قُدِّم في إطاره مغنون ومطربون مثل فريد الأطرش ومحمد فوزي وقبلهما محمد عبد الوهاب.
المقارنة، إذاً، بين أعمال "حليم" السينمائية وأعمال غيره واردة جداً، ولكن الصعوبة التي أشرنا إليها بدايةَ تنبع من مكان آخر من شخصية عبد الحليم حافظ نفسها ومن كيانه كمطرب ومن علاقته الخاصة بجمهوره. في حالة الآخرين ـ الأطرش وفوزي وعبد الوهاب ـ يمكن الجزم بأن التجربة السينمائية لم تكن مستقلة ولم تمتلك قيمة خاصة بعيداً عن كونها مشروعاً إضافياً لتوسيع رقعة شهرة المطرب ورواج أغنياته.
لا نحتاج إلى كثير من الجرأة لنعلن أولئك ممثلين فاشلين وأصحاب تجربة سينمائية لا خصوصية فعلية لها. لا نحتاج إلى الجرأة، لأن ذلك لن يمس بمكانة أولئك، ولا بفنهم وكأن ثمة تواطؤاً ما بين الأطراف المعنية من المطربين أنفسهم إلى الجمهور، إلى صنّاع الأفلام إلى النقاد، تواطؤ على أن يغضوا الطرف أو الأحرى أن ينظروا إلى هذه الأعمال من زاوية مختلفة.
ولكننا في حالة عبد الحليم حافظ نجد أنفسنا حائرين، متحسبين تجاه إطلاق الأحكام والتسميات إلى أن نقتنع بأن "حليم" كمطرب وكممثل شكل حالة خاصة استثنائية، محتفظاً لنفسه بخصوصية ما في أكثر التيارات السينمائية رواجاً وأحياناً استهلاكاً، وفي خضم قصص لاكتها السينما مراراً، في بعض الأحيان، ودفق ميلودرامي في أحيان أخرى، لم يكن غيره ليُسامح عليه. امتلك "حليم" تركيبة خاصة، تضافرت في صنعها عناصر مختلفة، معظمها ينبع من داخله، وجزء يسير منها شكلته عوامل خارجية.

ذروة
سطع نجم عبد الحليم حافظ الممثل في منتصف الخمسينات من القرن الماضي والواقع أن عقد الخمسينات شهد ذروة الانتاج السينمائي المصري وذروة النزعة الرومنسية في السينما، أو ما اتفق على تسميتها كذلك لوصف الأفلام التي أنتجتها السينما المصرية بداية من الثلاثينات وحتى منتصف الستينات، مع إضافة وصف "الغنائية" إلى المصطلح ولا سيما في وصف الأفلام التي قام ببطولتها مطربون، وتلك بدأ انتاجها في العام بعد دخول الصوت إلى السينما ـ "أنشودة الفؤاد" لماريو فولبي ـ وترسخت مع فيلم "الوردة البيضاء" لمحمد كريم عام مع محمد عبد الوهاب وكرت السبحة مع رجاء عبده ومحمد فوزي وشادية وعبد الحليم حافظ…
وهنالك من يعتقد أن النزعة الرومنسية في السينما غالباً ما كانت تنشط في فترات المعاناة الاجتماعية كالأزمات الاقتصادية والحروب. ولعل ذلك ما يفسر جزئياً ظاهرة انتاج كم من الأفلام الرومنسية في السينما الأميركية خلال سنوات معدودة بين و، وهي السنوات التي شهدت قيام الحرب العالمية الثانية (من هذه الأفلام نذكر: "كازبلانكا"، "ذهب مع الريح"، جسر واترلو"، "مرتفعات ويذرنغ" وغيرها). ولا تختلف الحال كثيراً في السينما المصرية التي شهدت خلال المرحلة نفسها كثافة المنتجات الرومنسية: "قيس وليلى" لابراهيم لاما، سلسلة أفلام "ليلى" التي لعبت بطولتها ليلى مراد، "رصاصة في القلب"، "غرام وانتقام"، "شهداء الغرام" وغيرها.
امتد انتاج هذه النوعية من الأفلام التي تسمى مجازاً "أفلام حب" أو "أفلاماً عاطفية" حتى مرحلة الستينات ولكنها شهدت ذروتها في الخمسينات، فترة ولادة عبد الحليم حافظ السينمائية. لا نبالغ إذا قلنا أن أفلام "حليم" كانت سبباً مباشراً في إثراء تلك المرحلة وربما لولاه لكانت توقفت السينما الرومنسية قبل ذلك وليس هذا بالمستغرب إذ أن تراجع الرومنسية في السينما المصرية كان مع فيلم العندليب الأخير "أبي فوق الشجرة" (). لم يكن "حليم" بالطبع الأوحد في ساحة الرومنسية، فمع أفلامه الستة عشر، برزت أفلام لآخرين، لفرسان الرومنسية وجميلاتها من أمثال عماد حمدي وكمال الشناوي وعمر الشريف ويحيى شاهين وشكري سرحان ورشدي أباظة وفريد الأطرش، ومن الممثلات فاتن حمامة وشادية ومديحة يسري ومريم فخر الدين وناديا لطفي وماجدة وسعاد حسني وليلى مراد… إنها الفترة التي شهدت أعظم قصص الحب في السينما المصرية وهي أيضاً فترة حرب ونهضة متقطعة، بدأت منذ ثورة "يوليو" وامتدت إلى ما بعد العدوان الثلاثي.
نجوم الرومانسية
غني عن القول ان الرومنسية كظاهرة سينمائية حملها نجوم الرومنسية أنفسهم مع احتفاظ كل منهم بملامحه الخاصة ومميزاته ـ حيث إن الممثل في هذا النوع من الأفلام لعب دوراً مركزياً ليس من خلال أدائه الخلاّق بقدر ما كان من خلال عملية معقدة تحكمها مواصفات النجم أو النجمة وقابلية الكاميرا لوجهه أو وجهها والاحساس الأول لدى الجمهور بقرب الممثل أو ببعده. يقودنا ذلك إلى مواصفات عبد الحليم حافظ وملامحه التي جعلت منه بطلاً رومنسياً من الطراز الأول ليتحوّل بعد ذلك "رمز" الرومنسية و"فتاها" شبه الأوحد في أذهان عشاق السينما ووجدانهم.
مما لا شك فيه أن "حليم" امتلك قدرة على التأثير من خلال طاقة تعبيرية تركزت في حنجرته قبل أي شيء، وما نجاحه السينمائي إلا استثمار لذلك التأثير على الجمهور.
لا نستطيع بالطبع أن نعزي هذا النجاح إلى صوته فقط ـ فهنالك صوت عبد الوهاب أيضاً ـ أو إلى شعبيته ـ كانت لفريد الأطرش شعبية كبرى ـ ولكن تضافر هاتين مع ملامحه الخاصة، أفضى إلى تكريسه نجماً سينمائياً رومنسياً، إلى جانب كونه نجماً غنائياً. اعتمدت "رومنسية" عبد الحليم في شكل أساسي على شكله الخارجي الذي أوحى الرقة والشاعرية وفي أحيان كثيرة الضعف الذي ربما ارتبط مجازاً ببنيته الناعمة النحيفة.
منحت هذه المظاهر والملامح صدقية كبرى لأدواره، إذ كان يسهل على الجمهور أن يتخيله الحبيب المظلوم أو الشاب الفقير أو الرجل المريض. لقد اكتسب "حليم" نوعاً من العطف من جمهوره وكان من شأن هذه العلاقة التي تولدت ـ بينه وبين الجمهور ـ القائمة على أحاسيس انسانية بحتة (العطف، الشفقة، التعاطف…) ـ بخلاف مشاعر التفوق والقوة التي يولدها أبطال سينمائيون آخرون ـ كان من شأنها أن تجعل من "حليم" بطلاً رومنسياً شبيهاً بالجمهور، قوته في قدراته التعبيرية وليس في كونه بطلاً خارقاً أو ثرياً فوق العادة أو جذاباً فيما لا يتصوره عقل. كان "حليم" انساناً "عادياً" تحركه كتلة أحاسيس وهو في "عاديته" و"طبيعيته" واقتراب صورته من الجمهور أحال المشاهد بطلاً رومنسياً هو أيضاً لأن "حليم كان مثالاً على كيفية التحوّل بطلاً من دون أن يحتاج إلى قوى خارقة".
العرش
هذا ما يفسر في شكل ما تربّع "حليم" على عرش النجومية من دون مواجهة منافسين له. فحين دخل "حليم" السينما ورحبت الأخيرة بنجوميته الوليدة، كان تيار الرومنسية، كما أسلفنا، هو السائد بفارسيه المعروفين هنري بركات وعز الدين ذو الفقار الذي قدّم العام ، سنة ظهور "حليم" سينمائياً، ثلاثة من أبرز أفلامه العاطفية: "إني راحلة"، "أغلى من عينيه" و"شاطئ الذكريات".
ومن حسن حظ الفتى الأسمر أن شخصيته وتكوينه وصورته عند الجماهير كانت تناسب اللون الرومنسي، فدخل التيار وفرض ملامح خاصة تختلف عن نجوم ذلك التيار آنذاك مثل عماد حمدي ويحيى شاهين وكمال الشناوي. فالأول كان هادئاً ورومنسياً ولكنه كان جامداً، لم يمتلك قدرة "حليم" على التعبير عن أصغر اختلاجة وإظهار تأثيرها على وجهه. شاهين لم يكن شاباً في كل معنى الكلمة وفرض شكله نموذج الرجل الناضج القوي والمهيمن. أما الشناوي فإن أدواره التي تنوعت بين "الخير" و"الشر" (تيمتان متلازمتان للنوع الرومنسي والميلودرامي) جردته من ملامح الرومنسية البحتة. وعلى اللائحة آخرون أمثال رشدي أباظة وأحمد رمزي ولكنهما اختلفا من حيث الشكل حيث كانا يتمتعان بجاذبية فائقة وقدرة هائلة على أسر ألباب الفتيات ـ كرست أدوارهما هذه الصورة ـ بما لا يتوافق مع ميل المشاهد إلى التماهي في الشخصية، وهو ما حققته تركيبة "حليم" البعيدة تماماً من كل ما هو "خارق" أو "فوق العادة". تضاف إلى هذه المميزات الخاصة بكل ممثل صفة عامة تنطبق على شاهين والشناوي وحمدي. فهؤلاء كانوا قد تخطوا، عند بروز "حليم" سينمائياً، سن "الفتى الأول"، ومع ذلك استمروا في لعب دوره، بينما كان "حليم" المولود عام في منتصف العشرينات من عمره. حين كانت سينما "ديانا" تعرض في آذار أول أفلام "حليم" "أيامنا الحلوة" لحلمي حليم الذي لعب فيه "حليم" دور طالب في كلية الطب البيطري، كانت سينما "ريولي" تقدم فيلماً لعماد حمدي المولود عام في عنوان "الله معنا" أمام فاتن حمامة يلعب فيه دور ضابط شاب حديث التخرّج بينما هو في الواقع كان تخطى الخامسة والأربعين.
وكذلك بينما لعب يحيى شاهين (المولود عام ) في الحادية والأربعين دور الشاب الذي يحب ابنة الجيران لبنى عبد العزيز في "هذا هو الحب" (صلاح أبو سيف، )، كان "حليم" يحب البطلة نفسها. وفي فيلم لأبي سيف أيضاً هو "الوسادة الخالية". لعل الاستثناء الوحيد في تلك الفترة كان عمر الشريف الذي يصغر "حليم" سناً وامتلك من مقومات الشكل والتركيبة ما يؤهله للعب دور "الفتى الرومنسي" ولكنه أفسح له الساحة بتوجهه إلى السينما العالمية، فضلاً عن تميز "حليم" بالغناء والجماهيرية الطاغية التي حققها في عالم الطرب. ولكنه سؤال مشروع ـ ليس هنا مكان لمناقشته بالطبع ـ وربما أن نسأل ما الذي كان سيحدث لنجومية "حليم" لو أن عمر الشريف بقي في مصر والتصق بالسينما المصرية؟
ثمة صفة أخيرة كان "حليم" شبه متفرد بها عن الآخرين أو لنقل بنسبة أكبر منهم: خلت أدوار "حليم" تماماً وشخصياته من أي إيحاء جنسي. إذا كانت تلك الصفة لصيقة بأفلام الرومنسية حيث العاطفة تقوم على الميل القلبي الذي يجد متنفسه في اللقاء العف والبوح النفسي، إلا أن "حليم" جسّدها أكثر من غيره. ففي ملامح الشناوي وأحمد رمزي ورشدي أباظة وحتى يحيى شاهين ما قد يوحي بذلك، إلا أن "حليم" لم يوح بذلك أبداً. حتى في فيلمه الأوحد الذي يلعب فيه دور شاب لاهث خلف الفتيات واللهو ـ "موعد غرام" () ـ لا يلبث أن يتحوّل المحب الرومنسي المثالي حين يتعرّف بفتاة مختلفة مع ما يحمله ذلك من إيحاء إلى أن أساس المشكلة تعرّفه بنوع واحد من النساء. بل إن "حليم" في ابتعاده من هذه الإيحاءات واقترابه أكثر من الحب العذري، كان ربما ـ عند قصد أو من دون قصد ـ يستلهم أكثر خصائص الرومنسية من ذاتية وفردية في اختلافه عن أقرانه الشبان. فهو غالباً في أدواره يحوم داخل دائرة ذاته المغلقة جرّاء الحزن أو الكآبة أو العشق، يميل إلى العزلة وإلى الرؤية المثالية للعالم من حوله.
من خلال الصفات الآنفة الذكر، استطاع عبد الحليم أن يقدم صورة البطل الرومنسي في معظم أفلامه الستة عشر التي قدمها في خلال أربعة عشر عاماً، فكان المحب الذي يتخلى عن حبه لصديقه (عمر الشريف) في "أيامنا الحلوة" ويتزوج بأخرى لانقاذ من كان يحبها؛ وهو الابن الأمين والصادق الذي يفدي ابن زوج أمه حفاظاً على العائلة والمبادئ في "أيام وليالي" ()؛ وهو المحب الضائع المتفاني في حب "نوال" على الرغم من أن الأخيرة أوهمته بأنها تحب آخر لتخفي عنه مرضها في "موعد غرام" ()؛ وهو الذي يحب بصمت شقيقة خطيبته في "بنات اليوم" ()؛ والشاب الذي لا ينسى الحب الأول ويحمله في قلبه حتى بعد زواجه في "الوسادة الخالية"؛ والمحب الذي يرضى بالشقاء وبالابتعاد عن حبيبته حين يعلم أنه سيموت قريباً في "حكاية حب" ().
لا يسعنا في أي شكل من الأشكال أن نحيط بالعناصر كافة التي أثرت في ولادة نجم أو في تحقيق شهرته، كما لا يمكننا حتماً أن نحدد مدى مساهمة كل من تلك العناصر في ذلك النجاح.
حياته مادة درامية
ولكن في شكل ما، نستطيع القول إنه إذا كان "حليم" امتلك ملامح خاصة تواءمت مع مناخ سينمائي مواتٍ لتصنع منه "بطلاً رومنسياً"، فإن عوامل أخرى ـ لا ندعي معرفتها تماماً ـ وقفت خلف استمراريته وشهرته ولا تزال تغذي حتى يومنا هذا صورته عند الجمهور وحضوره الغنائي والسينمائي على حد سواء. لعله كانت في حياته الخاصة العناصر الكافية لاستنباط مادة درامية لأفلامه منها. وينسب إلى الأديب نجيب محفوظ قوله ذات مرة إن حياة عبد الحليم حافظ تحمل كل مقومات العمل الدرامي لبطل مأسوي، بما تتضمنه من حيرة وقلق وألم، بل إن حياته نفسها كانت "بروة" دائمة للموت المنتظر. يصعب الجزم إلى أي حد كان هنالك عقل مفكر خلف اختيارات "حليم" السينمائية، أو في معنى آخر، هل كان كتّاب أفلامه يستلهمون أحداثاً من حياته ويضعونها في أفلامه؟ كان هذا السؤال ليكتسب قيمة أكبر لولا أن موضوعات الأفلام الرومنسية تمحورت حول حالات معدودة: اليتم، الفقر، الحب، الحرمان، المرض…
اللافت إذاً في ذلك هو اجتماع هذه الظروف في طفولة "حليم" وشبابه، هذا ما يقودنا إلى الاعتقاد بأن "حليم"، في شكل غير سائد أو متوقع، كان أهم من شخصياته وإن حياته كانت أثرى ـ ربما بالمعنى المأسوي ـ من أفلامه. هذا التطابق إذاً بين موضوعات أفلامه وحياته يقودنا إلى دهشة إزاء تلبّد الأخيرة بالمشكلات والعثرات أكثر مما يحملنا على التعجب من الصدفة.
فإذا تحقق "المستحيل" باجتماع عناصر الدراما في حياة انسان، فإن أي محاكاة بينها وبين السينما لا يعود مستغرباً. في هذا المعنى، جسّد "حليم" على الشاشة أحاسيس واقعية مر بها في تجربته الحياتية قبل السينمائية: يعكس "الخطايا" () حكايته مع اليتم الذي اختبره في حياته الواقعية طفلاً، بينما يحاكي "حكاية حب" واكتشاف بطله أنه مريض حكاية مرضه الحقيقية الذي عاش في ظل رهبته طوال حياته، أما "نوال" حبيبته المريضة في "موعد غرام" فتتطابق مع تجربته الواقعية حيث من المعروف أنه أحب امرأة وكان على وشك الزواج منها حين خطفها الموت. كذلك يقدم "شارع الحب" فيلمه مع صباح () ملخصاً لمسيرته حيث جاء من الريف إلى المدينة وووجه بالرفض قبل أن يحقق ذاته كمطرب. وقد يذهب بعضهم في رسمه خطوط التقاطع بين حياة "حليم" وأفلامه إلى اعتبار "أبي فوق الشجرة" () آخر أفلامه صورة عن تقرّب بعض المسترزقين منه واستغلالهم له.
شكّل هذا "التوحد" بين مصيره ومصائر شخصياته نقطة قوة في تلقي الجمهور لأفلامه ووصل التعاطف معه إلى حد خوف بعض الممثلين من الظهور أمامه في أدوار "شريرة" لئلا يؤثر ذلك في شعبيتهم عند الجمهور. وفي هذا تروى قصص كثيرة أشهرها رفض هند رستم لعب دور الراقصة "فردوس" أمام "حليم" في "أبي فوق الشجرة" لأنها تؤذيه، فذهب إلى ناديا لطفي، كما يتردد عن رفض سعاد حسني لدور الحبيبة في "البنات والصيف" () الذي أدته زيزي البدراوي وتفضيلها الدور الثاني عليه (شقيقة "حليم") خوفاً من أن يؤثر ظهورها في شخصية الفتاة التي تصد "عبد الحليم" في مسيرتها السينمائية التي كانت قد انطلقت لتوها بفيلم "حسن ونعيمة" () قبل عام واحد فقط من "البنات والصيف" الذي كان الفيلم الوحيد الذي جمع الاثنين. كما روى الممثل عماد حمدي في غير مناسبة أن الناس ظلوا يلومونه على تلك الصفعة التي وجهها لعبد الحليم في فيلم "الخطايا".
الظرف السياسي
الملامح الخاصة، المناخ السينمائي، الربط بين الواقع والسينما… هذه هي العناوين الرئيسة لمسيرة عبد الحليم حافظ السينمائية. ولكن أحداً لا يستطيع أن يستثني الظرف السياسي والاجتماعي حيث يتبين تأثيره في الانتاجات الفنية عموماً. للوهلة الأولى، قد يبدو "حليم" في الغناء شاملاً وفي السينما متخصصاً، أي أنه في الغناء قدّم الأغنيات العاطفية والوطنية في حين اقتصرت أفلامه على الرومنسية فقط.
ولكن الواقع أن ولادة "حليم" السينمائية بعد سنوات قليلة من قيام الثورة لم تكن لتمر غير متأثرة بذلك. فقد أضفت أفلام "حليم" رومنسية على الحياة الاجتماعية، بحيث نشعر بأن تلك الحقبة كانت حُبلى بقصص الحب ورسائل الغرام. في أفلامه، لا نرى موظفاً مرتشياً أو عناصر شرطة صارمة أو قمعية بل ان ضابط الشرطة في أحد مشاهد "الخطايا" يقتسم معه أجره حين يعلم أنه مفلس.
كذلك تبدو المنازل في أفلام "حليم" جميلة والشوارع نظيفة وأنيقة حتى في الحواري الشعبية.
لا مظاهر بؤس في أفلامه وإن وجدت فإنها تتمثل إما بشخصية طريفة كشخصية عبد السلام النابلسي الذي كان يضفي بهجة على الفقر وإما كمرحلة آنية سرعان ما تزول لتبقى منها الذكريات الجميلة فقط.
في هذا المعنى، كانت أفلام "حليم"، في معنى ما، متحدثة باسم الثورة، تعكس صورة مثالية عن شعب يأكل وهو يغني وينام على حلم بغد مشرق ويعيش الحب ومن أجله. لذلك نادراً ما نرى شخصيات هذه الأفلام تعاني مشكلات معيشية، بل إن معظمها عاطل عن العمل، لا يتكلف الفيلم عناء تحديد مواقفها في الحياة.
ففي "الوسادة الخالية" مثلاً، تعيش الشخصيات مرحلة التعليم الثانوي ومن ثم الجامعي حيث يقعون في الحب ومن ثم يتخرجون ويتزوجون وينجبون من دون إشارة إلى متاعب حياتية بل إن معاناتهم نابعة من عذاب الحب فقط وليس من أمور الحياة.
في هذا المعنى، يصبح سبب بقاء هذه الأفلام هو نفسه سبب تزلفها، أي أنها تمكنت من اختراق حاجز الزمن بفضل ما تجاهلته من حقائق اجتماعية مباشرة آنذاك ولكنها بالنسبة إلينا تبدو حقيقية، معبّرة عن زمن كان مثالياً.
هذا "النقاء" الرومنسي الذي عكسه "حليم" وكرّسه في أفلامه يحمل المشاهد أحياناً على تصوّر الحياة قائمة على الحب فقط وخالية من أي صراعات سوى الصراع بين أهل الحب، وأولئك الذين لا يحبون أو لم يشاهدوا أفلام عبد الحليم. النقاء الرومنسي، في شكل ما إذاً، انعكس على الواقع، واقع الثورة التي اكتسبت بدورها نقاءً وحملت صفات السينما الرومنسية، ولا يزال ذلك منطبقاً في معنى ما، على ما تبقّى من فترة الثورة، فما يحتفظ به الجمهور من ذكرى عن أفلام "حليم" ترتبط أيضاً بالثورة في خلفية الوجدان.
من التجليات الحديثة لهذه العلاقة بين أفلام عبد الحليم والثورة ما قدمه محمد خان في فيلمه "زوجة رجل مهم" العام مع أحمد زكي وميرفت أمين. فقد أهدى خان، ومعه كاتب السيناريو رؤوف توفيق، الفيلم إلى "صوت وزمن عبد الحليم حافظ" اللذين تمثلا في عشق البطلة لهما، فكان صوت "حليم" حاضراً في الفيلم من خلال ميرفت أمين، وكأنما في مواجهة مع القمع والغطرسة اللذين مثلهما أحمد زكي في دور ضابط الشرطة في عهد السادات. لقد تحوّل عبد الحليم بطلاً للفيلم من دون أن يظهر على الشاشة وإنما فقط من خلال أغنياته التي استدعت حقبة كاملة وارتبطت بشخصية "أمينة" الحالمة والرومنسية. في مقابلة أجراها كاتب السيناريو رؤوف توفيق ذكر أن "قوة المفارقة بين الزمنين حيث صوت عبد الحليم في مواجهة صوت السلطة، صوت الأحلام في مواجهة صوت المصلحة، هو الذي أعطى دراما الفيلم هذا القدر الكبير من المصداقية" والمفارقة أن اختيار الأغنيات انحصر في العاطفية منها فقط.
حكايتان
في بدايات عبد الحليم حافظ السينمائية حكايتان بارزتان. الأولى مع المخرج عاطف سالم الذي استعان به في فيلمه "الفجر" () مع ماجدة كمطرب فقط، ولكن "حليم" طمع في دور "ابن البوسطجي" الذي يغرم بشخصية "ماجدة" ولكن سالم رفض كما لم يرضَ بأن يظهر "حليم" وهو يغني.
وفي هذه الحادثة ما يذكر ببداياته في الغناء حين استقبله الناس بالبندورة والبيض بينما يقف على المسرح للمرة الأولى ليؤدي أغنية "صافيني مرة". أما الحكاية الثانية فمع عبد الوهاب الذي اكتشفه كمطرب وقدّمه إلى الجمهور بل إنه تنبأ بنجاحه في السينما فكان أول من عرض عليه الفكرة موقعاً معه عقداً للقيام ببطولة الفيلمين "أيام وليالي" و"بنات اليوم" مشترطاً أن يلحن أغنيات الفيلمين وألا يمثل "حليم" في أي فيلم قبل انتهاء تصوير الفيلمين. إلا أن عبد الوهاب وضع العقد جانباً لمدة طويلة، تلقى أثناءها "حليم" عرضين من ابراهيم عمارة للوقوف أمام شادية في "لحن الوفاء" ومن حلمي حليم لمشاركة فاتن حمامة وعمر الشريف بطولة "أيامنا الحلوة" وهكذا أبصر هذان الفيلمان النور قبل الأولين مما يفسر ظهور أربعة أفلام له في عام واحد، .
ملامح عامة
إذا كان لا بد من رسم ملامح عامة لأفلام عبد الحليم حافظ، نبدأ بانسجام مواضيعها مع تعريف الأميركي روبرت لانغ في كتابه "ميلودراما السينما الأميركية" لمراحل "الميلودراما" أو "الرومنسية" في حالة "حليم" والمراحل ثلاث: الديني والاجتماعي والنفسي، حيث يكون الصراع في الأول مع القدر والمرض وفي الثاني ضد التقاليد والظروف الاجتماعية وفي الثالث لتحقيق فردية ما وذاتية خارج إطار العلاقات الأبوية. في أفلام حليم الأولى ـ "أيامنا الحلوة" و"موعد غرام" و"دليلة" ـ يظهر العدو الأول للحب المرض أو الموت ويظهر الصراع ضد الأب في صورة الصراع ضد زوج الأم في "أيام وليالي" والأب بالتبني في "لحن الوفاء". ويختلط الصراع ضد النظام الاجتماعي بالصراع ضد الآباء في"الوسادة الخالية" وضد القدر في "شارع الحب" ويصبح اجتماعياً خالصاً في "يوم من عمري". كذلك تظهر ذروة الصراع ضد الأب في "الخطايا" على الرغم من أنه يتحول بحيلة درامية أباً مزيفاً وفي "أبي فوق الشجرة" الذي يمثل ذروة الميلودراما الرومنسية في السينما المصرية وبداية نهايتها أيضاً. كذلك تتشابه شخصيات عبد الحليم في هذه الأفلام ويمكن تلخيص التشابه كما يلي: هو الحبيب الذي تظلمه الدنيا لسبب ما وهو الذي يقدّم التضحيات أو يضحي غيره من أجله في عالم من المشاعر الصافية، تحيطه المشكلات وتعيقه عن الوصول إلى الحبيب. وغالباً ما تنتهي الأفلام بالزواج إلا نادراً حين يعد العمل قيمة يراها أعلى مثل "الصداقة" في "أيامنا الحلوة" أو حين تنتهي الأحداث بموت أحد الطرفين حيث يعتبر الموت شهادة أو نوعاً من التسامي ويتم في صمت كي لا يتعذب الطرف الآخر. في معظم أفلام "حليم"، وغيرها من الأفلام الرومنسية، يمكننا أن نلمس صفات ثابتة عند البطل والبطلة، فالرومنسية هي ببساطة وحدة بين رجل وامرأة، يرمز فيها الأول إلى قيم الصدق والنبل والشجاعة بينما ترف المرأة إلى قيم التضحية والوفاء.
في هذه الأفلام، يبدو الرجل ـ "حليم" ـ نقطة الثقل فهو الذي يعاني ويشتاق ويفشل في الوصول إلى حبيبته أما الأخيرة فهي البطلة الرائعة الجمال التي تتخد موقعها في المستقبل إلى حيث يسعى البطل للوصول. ولكن هناك استثناءات أبرزها فيلم "موعد غرام" حيث لم تكن فاتن حمامة بطلة "متلقية" وذلك يعود بالطبع إلى مكانتها السينمائية. فحين أنجز هذا الفيلم في العام ، شكل التجربة رقم "" بالنسبة إلى حمامة خلال ستة عشر عاماً من التمثيل بدأت في العام ، أما بالنسبة إلى عبد الحليم فكان تجربته الخامسة فقط.
وللأرقام هنا دلالة كبرى إذ توضع أن فاتن حمامة كانت في تلك المرحلة نجمة عصرها ومطمح آمال المخرجين والممثلين، أما "حليم" فكان المطرب والممثل الصاعد كالصاروخ وإن كان تخطى مرحلة البدايات ودخل حقبة الايمان بصوته والمراهنة على قدراته. واللافت أن أداءه في هذا الفيلم، نسبة إلى أداء حمامة، بدا طبيعياً غير مفتعل وربما كان هذا ما ميّزه عن مطربي عصره ممن امتهنوا التمثيل، لم يكن أداؤه مفتعلاً مثل عبد الوهاب أو مرتبكاً مثل فريد الأطرش أو متعالياً مثل محمد فوزي، كان يمنح المشاهد الاحساس بالمعاناة والتواضع.
لعل فيلميه مع فاتن حمامة "موعد غرام" و"أيامنا الحلوة" قدّما صورة مختلفة عن المرأة البطلة، أما بطلاته الأخريات ـ زهرة العلا، لبنى عبد العزيز، مريم فخر الدين، ماجدة، آمال فريد… ـ فكن في الخلفية.
الصفة الثالثة لأفلام "حليم" توظيف الأغنية في موقع درامي هو ما كان شبه غائب عن الأفلام الغنائية الأخرى في السينما المصرية. نستعيد أغنية "قولي حاجة" في "الخطايا" التي يغنيها في دار الأوبرا أو في "يوم من الأيام" في فيلم "الوسادة الخالية" حيث الأغنية والتقطيع مع لقطات غيوم كثيفة وحالة البطل النفسية كلها متشابكة. وفي عدد من الأفلام، لعب "حليم" دور المطرب الموهوب الذي يبحث عن فرصته كما في "حكاية حب" و"معبودة الجماهير".
فمنحت هذه التركيبة المخرج قدرة أكبر على توظيف الأغاني في سياق درامي. تجدر الاشارة أيضاً إلى أن السينما الرومنسية استفادت من الحركة الرومنسية في الأدب، فترجمت في مصر في عقدي العشرينات والثلاثينات من القرن الماضي روايات فرنسية إلى السينما مثل "غادة الكاميليا" و"الكونت دي مونت كريستو" و"كارمن" و"البؤساء" و"مجدولين" وغيرها. كما أخذت السينما المصرية عن أفلام اشتهرت بطابعها الرومنسي، فكان فيلم "يوم من عمري" مأخوذاً عن الفيلم الأميركي "إجازة غرامية" الذي لعب بطولته كل من أودري هيبورن وغريغوري بيك. واقتبس "الخطايا" عن "بذور الخطيئة" في الخط الروائي الرئيس فقط. ولكن ازدهار الحركة الأدبية في مصر منذ الثلاثينات وترسخها في الخمسينات والستينات من القرن الماضي حوّل الأنظار إلى الانتاج الأدبي المصري، فشكلت روايات احسان عبد القدوس ويوسف السباعي وعبد الحليم عبد الله وبعض أعمال توفيق الحكيم (رصاصة في القلب، الرباط المقدس، الأيدي الناعمة) وطه حسين (دعاء الكروان) معيناً لا ينضب للسينما. عن روايات عبد القدوس اقتبست بعض أفلام "حليم" مثل "الوسادة الخالية" و"البنات والصيف" و"أبي فوق الشجرة" وأخرى عن أعمال ليوسف السباعي مثل "شارع الحب".
  

السابق
كاتي بيري تبيع «عش الزوجية» في نيويورك
التالي
الأزمة اللبنانية من الشرفة السعودية… وقائع وتجارب وأسرار