تطيير الانتخابات يبدأ بعد شهر 

في أحد الاجتماعات الحكومية المخصصة للبحث في قانون الانتخابات، كان أحد المسؤولين يقدم شرحاً مفصلاً لمشروع النسبية، مستعيناً بشاشة وبيانات توضيحية وجداول كاملة. وصل إلى تبيان كيفية احتساب النتائج في تلك الصيغة المعتمدة في عشرات الدول المتقدمة كما النامية وحتى المتخلفة. قال للحاضرين: لنفترض أن في دائرة معينة عشرة مقاعد، وأن عدد المقترعين كان ثمانين ألفاً. نقسم عدد المقترعين على عدد المقاعد النيابية، ما يعطينا الحاصل الانتخابي. وفي شكل مرافق لكلامه، مرت على الشاشة لوحة توضيحية تظهر عملية القسمة: 80 ألفاً على عشرة … فما كان من أحد المسؤولين الحاضرين إلا أن رفع صوته متأففاً: «ما صدقنا متى خلصنا من المدرسة والرياضيات»… قبل أن توافقه أكثرية حاضرة، تؤيدها أكثرية غائبة في انطباعات الطبقة السياسية في البلد، بأن قانون الاقتراع النسبي مسألة معقدة جداً، ويستحيل فهمها، أو تطبيقها.

يتضح من تلك الواقعة، كما من كل السجال الدائر تاريخياً حول أي قانون انتخاب للبنان، أن المسألة الفعلية التي تتحكم في حسابات السياسيين هي بكل بساطة: كيف نتحكم مسبقاً في نتائج الانتخابات؟ هذا هو الهدف الحقيقي لكل الخلفيات المطروحة، أما الباقي فمجرد ذرائع. في العمق، يبدو للخبير والعارف أن الإصلاح في العملية الانتخابية هو المرفوض، وأن المطلوب هو الحفاظ على كل الآليات التي تضمن استتباع المواطن واسترهان صوته ضمن نظام الزبائنية السياسية القائم في شكل متقاطع بين الترويكا اللبنانية الدائمة: أدعياء زعامة الطوائف، وأصحاب المال، ومنابع الإيحاءات الخارجية.

فعلى سبيل المثال، يرفع الفريق الحريري صوته رافضاً قانون الاقتراع النسبي، بحجة أن الواقع الشيعي الراهن يحمل من القيود والاعتبارات التي تحول دون قيام عملية حرة بالكامل، لجهة الترشيح أولاً، ومن ثم لجهة الاقتراع، ما يجعل الانتخابات، وفق النظرية الحريرية، تجري وفق النظام النسبي في المناطق غير الخاضعة للسلاح الشيعي وحدها، وتجري وفق النظام الأكثري فعلياً، في الدوائر الواقعة تحت «وهج» هذا السلاح. غير أن الواقع العلمي والوقائع الفعلية، تكذِّب تلك النظرية برمتها. فالنسبية كمبدأ اقتراع مفتوحة على صيغ عدة وتطبيقات لا تحصى. يكفي مثلاً أن تعتمد النسبية من دون «عتبة تأهيل»، لتطيح عملياً وفعلياً كل تلك الهواجس الحريرية ولتبدّد نهائياً المخاطر المشار إليها سابقاً، فضلاً عن كون تجارب الاستحقاقين الماضيين، من حارة حريك المؤيدة لميشال عون ضد حزب الله سنة 2005، إلى الأسعديين في الجنوب في الدورتين، كافية لدحض هذا الهاجس.

الأمر نفسه يظهر في حسابات الجهة المقابلة، عند طرح مسألة اقتراع اللبنانيين المقيمين في الخارج. ذلك أن تردّداً واضحاً يظهر في مواقف بعض مكوّنات الأكثرية الحالية من هذا الموضوع. قيل إن هناك تخوّفاً من كون القاعدة المؤيدة للثنائية الشيعية مثلاً، موجودة بغالبيتها في بلدان مناوئة لقيادات تلك الثنائية، أو تعمل لدى أرباب عمل خارج لبنان، ممن يرتبطون بإدارات تلك الدول ويحاذرون بالتالي إظهار أي تأييد للثنائية الشيعية في لبنان. والجلي خلف تلك الهواجس تساؤلات من نوع: كيف للبناني مقيم في بعض دول الخليج، أو في الولايات المتحدة الأميركية، أن يجرؤ على الاقتراع في ممثلية دبلوماسية لبنانية، من دون قلق تعرضه للضغط إما من سلطات ذلك البلد، أو من صاحب العمل الذي يعيله، بحيث قد ينتهي عملياً إلى قرار الامتناع عن الاقتراع. في مقابل تشجيع محتمل على ذلك، للناخبين من الميول السياسية المقابلة. غير أن العارفين يؤكدون كذلك أن في عمق هذا التخوف بعضاً من الخلفية ذاتها: هل يُقبل الزعيم اللبناني، أي زعيم لبناني وطني، وفق تعريف زياد الرحباني، على خوض الانتخابات وهو يجهل النتيجة المسبقة لقسم من المقترعين؟ المقيمون لا مشكلة لديه حيالهم، فهو يحصي قيودهم ومصالحهم وأنفاسهم ومعاملات حياتهم وموتهم. لكن كيف يترك نفسه لمجهول أصوات لا يضبط اتجاهها، تهبّ على حساباته من أصقاع العالم؟؟

خلفية الفساد السياسي وإفساد العملية الانتخابية وتزوير حق المواطن في اختيار ممثليه، هي ما يكمن خلف رفض كل البنود الإصلاحية الأخرى، التي يجري تطييرها في كل مرة، بحجة التعقيد أو التأجيل أو التعليق على مشجب استحالة فهم النسبية: قسيمة الاقتراع الموحدة، رفع السرية المصرفية عن كل حسابات المرشح، توحيد معايير الإعلام والإعلان الانتخابيين، وصولاً حتى «هيئة الإشراف» على الانتخابات، والتي على سبيل المثال تواجه استحقاق تأليفها قانوناً في مهلة أقصاها 9 حزيران المقبل. فهل من يعي ذلك، وسط عدم وضوح أي تفصيل من القانون المطلوب؟ أم تطير الهيئة، تمهيداً مسبقاً لتطيير انتخابات، إذا لم يكن البعض متيقّناً من معرفة نتائجها قبل الاقتراع، لا بعده؟

السابق
الباب لي بيجيك منو ريح.. صدّ الخطر الآتي منه
التالي
ضغوط للفلفة قضيّة الباخرة