الحلول السحريّة كارثية

لم تكن قليلة الدعوات التي صدرت، من هنا وهناك، في سبع سنوات إلى اليوم، من أجل تجاوز الإستقطاب الحاصل بين إئتلافي "8 آذار" و"14 آذار"، وكثيراً ما أرفقت هذه الدعوات مع توقّعات بأنّ هذا الإستقطاب آيل إلى الإنحلال السريع. مع ذلك بقيت الثنائية الإستقطابية بين "8 و14" مسيطرة على المجتمع وليس فقط الحياة السياسية، ومن الواضح قبل عام من الموعد الدستوريّ للإنتخابات النيابية أنّ هذا الاستقطاب ما زال الإطار الأساسيّ بصرف النظر عن منسوب الحيويّة والحماسة من جهة، أو عن معدّل التوتّر والتصادم من جهة أخرى.

وهذا يعني بشكل عام أنّنا متّجهون إلى المنازلة الإنتخابية الثالثة على قاعدة الاستقطاب نفسه الناشئ في شهر آذار 2005، وإن كان استقطاباً متحرّكاً عرف الكثير من التبدّلات على مدار السنوات، وهي تبدّلات جاءت تعكس بالدرجة الأولى الاختلال الأمني الواضح بين الائتلافين، نظراً الى احتكار أحدهما، أي ائتلاف 8 آذار بقيادة "حزب الله" لمعادلة السلاح والميليشيات المسلّحة، بما أوجد مناخات حرب أهلية متقطّعة تشن أمنيّاً بشكل يكاد يكون أحادياً، بلغت الأوْج في غزوة 7 أيّار.
وأمام حدّة الأستقطاب، كانت كل دعوة إلى تشكيل "قوّة ثالثة" أو "وسطية" تنأى بنفسها عن "8 و14" سرعان ما تكشف عن وجهها المنحاز إلى أحد الإئتلافين، وبشكل أساسيّ إلى "8 آذار"، فالعماد ميشال عون كان حريصاً مثلاً في الأشهر الأولى التي أعقبت تفاهمه مع "حزب الله" على أن يميّز بين التفاهم وبين التحالف، وكثيراً ما صرخ في وجه الصحافيين في أيّام حرب تمّوز لأنّهم لا يفهمون مقصده هذا، ويحاولون توريطه في تحالف مع "حزب الله" الذي تخاض الحرب الشعواء ضدّه، فيما هو يعرض القيام بدور وساطة بين الأمم المتحدة والدولة اللبنانية! مثل هذه الأشياء تُنسى سريعاً في بلد كلبنان!

طبعاً، حركة النائب وليد جنبلاط في هذا الإستقطاب تشكّل وحدها الفارق النوعيّ الذي يعقّد المسألة فبعد انتخابات 2009 التي خيضت على أساس هذا الاستقطاب، جرت محاولة احتواء خروجه من العمل الجبهوي في 14 آذار، ببقائه في الأكثرية البرلمانية لـ14 آذار، لكن ذلك الوضع ما لبث أن انقلب، فاتجهنا إلى وضعية يشكّل فيها جزءاً من الأكثرية البرلمانية لـ8 آذار ومشاركاً في حكومتها، إنّما متصدّراً المشهد اللبنانيّ الداعم للثورة السوريّة على نظام بشّار الأسد! هذا يعني بالتأكيد بُعداً "تجاوزياً" للإستقطاب بين 8 و14 آذار، لكنه يعني أيضاً أنّ هذا الإستقطاب ما زال وحتى إشعار آخر يمسك بتلابيب الحياة المجتمعية والسياسية اللبنانية.

وبمقارنة سريعة، يمكن القول إنّ الثنائية القائمة بين 8 و14 آذار بكل ما يحمله كل ائتلاف من التباسات وتناقضات، قد استمرّت بشكل غير مسبوق في التاريخ اللبناني الحديث. في السبعينيات، كانت أيضاً ثنائية استقطابية في بداية الحرب، بين الحركة الوطنية والجبهة اللبنانية، لكن هذه الثنائية انفجرت بنتيجة الحرب نفسها، و"القوّة الثالثة" ظهرت باكراً جدّاً لتنسف أو تقوّض هذه الثنائية، سواء عنينا بهذه "القوّة الثالثة" حركة أمل، أو التدخّل السوريّ عموما، أو موقع ودور المؤسسة العسكرية في الحرب الأهلية، وهو موقع ودور لم يدرسا بالمناسبة بشكل منهجي بعد، مع أنّ ذلك من شروط المقاربة السليمة لتاريخ الحرب.

ثنائية "8 و14" جاءت مختلفة، ووجه الإختلاف الأساسيّ هنا أنّ هناك فريقاً واحداً، مستثنى منذ انتهاء الحرب الأهلية من موجب حلّ الميليشيات. أمّا وجه الإختلاف الثاني، فهو أنّ فريق 8 آذار له قيادة أحادية واضحة، هي قيادة "حزب الله" في لبنان، وله ارتباط عضويّ واضح بالنظامين الإيرانيّ والسوريّ، في حين أنّ فريق 14 آذار ليس كذلك. طاقمه القياديّ أكثر تعدّدية بما لا يقاس، وارتباطاته الخارجية أكثر تنوّعاً، ولا تقارن في أية حالة بنموذج الإرتباط العضويّ بولاية الفقيه إلا بالنسبة الى من يعتمد المماثلة الكاريكاتورية وليس التحليل الجديّ.
ثم يأتي وجه الإختلاف الثالث بين الفريقين، وهو أنّه بعد لقاء "عين التينة" عام 2005 لم يعد هناك شكل تنظيميّ للعمل الجبهويّ بين فرقاء 8 آذار، اللّهم إن اعتبرنا "معسكر المعارضة" الذي أقامه "حزب الله" وحلفاؤه في خريف 2006 في وسط البلد بمثابة عمل جبهويّ طال لعام ونصف العام.

أمّا 14 آذار، فعاشت تجربة جبهوية، تشبّه في مكان ما بتجربتي "الحركة الوطنية" و"الجبهة اللبنانية" مع فارق أنّنا هذه المرّة حيال خليط من سمات التجربتين هاتين. وإذا أمكن عدّ "الكيانية اللبنانية" لهذا الفريق إرثاً يأتيه أساساً من اليمين التاريخيّ، فإنّ كثرة الحديث داخله عن "النقد الذاتي" وعن "أزمة الحركة الإستقلالية" هو إرث يأتيه أساساً من اليسار!

وفي واقع الحال، إنّ أخطر ما يواجه الحركة الإستقلالية من الداخل هو استطابة الحديث عن أهمية النقد والنقد الذاتي واستنهاض الهمم وأشكال تجاوز الأزمة وتجديد الأطر وكل هذا الكلام، في حين يبدو من الأنسب إدراك أنّ أزمة الحركة الإستقلالية تبقى في نهاية المطاف إنعكاساً لواقع لا بدّ من التعايش معه، وهو واقع أنّ الكيانية اللبنانية في تعريفها كيانيّة مأزومة، أي كيانية لا يمكن انتاج حلول سحريّة لها، بل لا بدّ رأساً من اعتبار كل حلول سحرّية مزعومة حلولاً كارثية، وهذا ينطبق بالدرجة الأولى على قانون الإنتخاب. إنّ حلولاً مزعومة من نوع "دعوا كل طائفة تنتخب نوابها" أو "لبنان دائرة واحدة نسبية في ظلّ السلاح غير النسبيّ" هي بمثابة السحر الأسود.
لكن يبقى السؤال، هل يمكن أن تتفق الحركة الإستقلالية وبشكل سريع على تصوّر موحّد لقانون الإنتخاب؟ لنا محاولة الإجابة في الأيّام الآتية…

السابق
على الحدود اللبنانية السورية!
التالي
ماذا وراء التوتر الخليجي_الإيراني؟