الممثلان في مواجهة الرقابة

في قاعة محكمة الجنايات في قصر العدل في بيروت وقف كل من الممثلين إدمون حداد وراوية الشاب، أمس، أمام قاضية الاستجواب فريال دلول، يحاولان أن يشرحا ما لا يُشرح. يحاولان أن يدحضا التهمة الموجهة إليهما بـ«الإخلال بالآداب العامة والحضّ على الفجور».
في الجلسة التي حضرها فنانون وإعلاميون وناشطون وقف حداد والشاب بين متهمين بجرائم سرقة واختلاس وتزوير، ليوضحا أن جلّ ما فعلاه هو إضحاك الناس في مسرحية كوميدية أقيمت في مقهى ليلي في الجميزة، في العام 2009، بهدف جمع تبرعات لمصلحة «جمعية برايف هارت» لمساعدة الأطفال المصابين بمرض القلب. استمع القضاء لشهادتي الممثلين في جلسة علنية حضرها متهمون ومحامو قضايا جنائية مختلفة، وبعد نحو نصف ساعة من بدء جلسة محاكمتهما، أمرت القاضية بتحويل الجلسة إلى جلسة سرية فخرج الفنانون ليعتصموا رافعين لافتاتهم: «يا عيب الشوم». وخلصت الجلسة وفق محامي حداد والشاب، نزار سركيس، إلى «تحديد جلسة مرافعة في الثلاثين من أيار المقبل».

كان المشهد في القاعة مؤلماًً وسورياليا ومفزعاً في آن، ويدفع إلى التفكير بأسى في خريف الحريات في لبنان، وبالرقابة ذات الغدة المتضخمة التي باتت تلتهب كل يوم، وبالتفكير كيف يتم التعامل مع الفن وكأنه يهدد الأمن القومي!
أمس حُوكم حداد والشاب على مسرحية «ستاند أب كوميدي» قدمتها الشاب ولعب فيها عدد من الشبان أدوارا تمثيلية (سكيتشات) تقضي بأن يشاركوا في مزاد علني (تمثيلي)، فيقفون على خشبة المسرح ويحكون عن هواياتهم ومواهبهم ويرقصون ويمازحون الجمهور، وبدوره يدفع الجمهور مقابل هذه العروض، لتعود الأموال المدفوعة لصالح الجمعية المذكورة، وبين هؤلاء الشبان إدمون حداد الذي رغب بإضحاك الجمهور أكثر وبتحفيزه على زيادة المبالغ المدفوعة للجمعية، فأظهر جزءا من سرواله الداخلي.

ما أوصل حداد والشاب فعلا إلى المحاكمة كانت المقالة التي وردت في إحدى الصحف والمعنونة بـ«شبان لبنانيون في المزاد العلني»، والتي أدرجت في ملف محاكمة الممثلين. علماً أن المقال يقدم العرض المسرحي التفاعلي على اعتباره «سهرة راقصة أقيمت في مقهى ليلي جرى فيها مزاد علني لبيع الشباب». وهو ما ينفيه محاميهما سركيس، مشيرا إلى أنه «تم تسليم القضاء فيلماً مسجلاً عن المسرحية يُظهر وقائعها كما هي من دون أي تحوير لما جرى من وجهة نظر أي كاتب أو ناقل لأحداثها، إنما حتى اللحظة لم تتم مشاهدته!».

في القاعة، حيث كان الفنانون ينتظرون بدء جلسة المحاكمة كان أغلبهم يرسم علامات استغراب ودهشة. وقد بدت المحاكمة للفنان زيد حمدان «كامتداد لكل ما يجري في البلد من قمع للحريات. بتنا نشعر أننا نحتاج إلى مقاومة فنية للحفاظ على أبسط حقوقنا». أما الناشط والفنان ألكسندر بولكيفتش فيكرر: «التمثيل جزء من الحياة، كيف يكون مخلاً بالآداب؟».

حداد والشاب ليسا أول ضحية للرقابة المتفجرة أخيراً، فمنذ أيام معدودة واجه الناشطان خضر سلامة وعلي فخري الاعتقال وهما يرسمان «الغرافيتي» على جدران بيروت، وأفرج عنهما بعد يومين وهما في انتظار تحديد موعد محاكمتهما. ويلفت سلامة إلى أنه «بات واضحاً الآن أننا لا نتمتع بأي ديموقراطية، بل نحن ضحية قانون فضفاض يسمح باعتقالنا لأسباب مختلفة والحكم علينا حسب اجتهادات القاضي». وقبل ذلك اعتقل الرسام سمعان خوام وحكم بتهمة «جرم الرسم على الحائط»، وهو ينتظر جلسته الثانية في 25 حزيران المقبل. خوام الذي حضر أمس يكرر غاضباً: «من يحدد إذا كان عمل فني مخلاً بالآداب؟ وهل مشكلتنا اليوم الإخلال بالآداب ونحن نواجه الفساد والسرقة والطائفية والقتل؟». وهذا ما يجعل الممثل جو قديح يوضح أن «ما يحصل معيب بحق الحريات وبحق المسرح، واستمرار لموجة الرقابة التي تبدأ بالتدقيق بالنصوص المسرحية وصولا إلى محاكمات بعد العرض».

تفرض محاكمة حداد والشاب أسئلة لا يمكن تجاهلها: كيف بات كل يوم جديد يجر معه فنانا أو كاتبا إلى المحكمة مساويا إياه من حيث الشكل بالقاتل والمجرم والسارق؟ أليس من المفترض أن يكون للفنان دور مختلف وحرية ليقول رأيه؟ الجواب يأتي من حداد نفسه الذي أعلن على صفحته الخاصة على موقع «الفايسبوك»: «حضرة القاضي أتعهّد أن أقوم فقط بالأعمال الخارجة عن المألوف اجتماعياً. أنا فنان وهذا دوري وهذا حقّي»، مضيفاً: «الفنان هو من يحاسب الدولة وليس العكس».
عاشت بعض بلدان العالم العربي ربيعها، وأبرز (وربما أوحد) مكاسبها كانت حريات التعبير. وبرز في الأشهر الأخيرة عربيا وعالميا أكثر من صرخة جريئة لتقول رأيها في القمع بينها صور علياء مهدي والممثلة الإيرانية غلشيفته فراهاني العارية. أما بيروت، فتحتفل كل يوم بخريف المنع. هذا عام آخر من المنع ولا شيء يوحي أنه ســيكون العام الأخير في بلد لطالما تباهى بأنه يطبع الكتب الممنوعة في البلدان العربية.

أما اليوم، فلنحكِ عن جدران المدينة قبل مطابعها ومسارحها. لنحكِ عن بحث الرقيب المتواصل عن ضحية جديدة، غاضا النظر عن برامج تلفزيونية فكاهية تطفح بالعنصرية، وجلسات مجلس النواب التي تحقن بطائفية لا بد أن تثمر عما قريب، فجوراً وحروباً، وعن رجال الدولة أنفسهم، الذين يشتمون ويتراشقون بالكراسي من دون أن يقولوا للمواطن «إحم، عذراً نحن نخدش حياءك العام».

السابق
في صور يلوح مشهد موت الإمام الصدر
التالي
أنان يطالب بنشر سريع للمراقبين الـ300 وفرنسا تمهله حتى 5 أيار