زيارة الأقصى: محنة المفتي

كنت أتمنى أن تنعقد ورشة عمل، في إطار المراجعة المرتجاة، للسياسات، بجوار مركز اتخاذ القرار الفلسطيني؛ بهدف تقييم ما آلت اليه تجربتنا في حضّ العرب والمسلمين، رموزاً وعامة، على زيارة القدس، أي في الاتجاه النقيض لفتوى قرضاوية. فقد كنا ندعو وما زلنا، الى التضامن مع أهلنا في زهرة المدائن، لعل الزائرين يسهمون في التأكيد على عروبتها، في مواجهة عمليات التهويد، وينقلون ما يرونه بأمهات أعينهم، الى شعوبهم وإعلامهم. وباعتبار أن ورشة التقييم الموضوعي، ستكون واقعية بالضرورة، ولا يصح أن يضحك المشاركون فيها على أنفسهم؛ يصح أن ينطلق البحث من واقع النتيجة التي انتهت اليها مباراة الشيخ علي جمعة تحديداً، وهي أن القرضاوي، بعد الزيارة؛ لم يكن هو الطرف المغلوب. وربما يذهب قائل الى الجزم بأن القرضاوية فازت بالثلاث نقاط، لأن فريقنا لم يفلح في مجرد التعادل. فقد نزلت على رأس الشيخ جمعة، الإدانات من كل حدب وصوب، إن صددنا عنه بعيدها وغشيمها، فوجئنا بنزول قريبها وساخنها: مجالس الإفتاء البعيدة، ومنها المختصة بإصدار فتاوى التكيف مع شروط الحياة في القارة الأوروبية، وتحليل بيع الخمور لمن يؤذيه تجاهلها في المطاعم. ومنها ما يبيح للجندي المسلم، إطلاق النار على مسلمين إن كان مضطراً لأكل الخبز في الجيش الأميركي. ومنها إدانات صادرة عن مرجعيات حصيفة لا تُناقش، كالأزهر الشريف. ومنها إدانات من حلقات الحركة الإسلامية بأطيافها ومذاهبها، ومعها نقابات كُتّاب ومفكرين ومحامين ومهنيين، لا شأن لهم بالفتوى أصلاً. ومن الإدانات القريبة، ما صدر عن الحركة الإسلامية في الأردن، وعن مرجعيْن فلسطينيين إن لم تنشأ أهمية رأي كل منهما، عن تميزه الفقهي، فإنها ناشئة بالمحصلة عن دورهما وما يمثلان: عِكرمة صبري، مفتي بلادنا وسلطتنا نفسها لعشر سنوات، ثم رئيس «الهيئة الإسلامية العليا في القدس الشريف» ورائد صلاح محاجنة، رئيس الحركة الإسلامية داخل الخط الأخضر!

من هنا، كان يتوجب أخذ الموضوع برويّة، مثلما أخذته «حماس» بروية وخبث، وصمتت عن الكلام المباح، حتى ظهرت نتيجة النقاط الثلاث فأعطت رأياً حول الفارق بين زيارة وزيارة، في تلميح الى رجاحة الكراهة ونقد الزيارة. ولو تم إسقاط المفتي المصري سيتغالظ التقييم الحمساوي بأثر رجعي، وربما يُستدعى دايتون، لكي يُحشر في الزيارة والحكاية. الآن، حتى لو كانت كل تلك الأطراف على خطأ، وأن فقيهنا محمود الهباش، هو المؤهل والمسموع في العالمين؛ أليس من واجبنا أن نقيّم التجربة بواقعية، لكي نعلم الى أي مدى نحن نؤثر؟ والى أية مسافة يصل صوتنا المعترض على تخرصات قرضاوية؟ والى أية درجة من الوجاهة والصدقية، وصلت مؤسستنا الفقهية؟! في الحقيقة، لم أشعر بالرغبة في تناول موضوع زيارة القدس، وجوباً أو تحريماً، على الرغم من الثغرة الكبيرة في فتوى القرضاوي. وبالمناسبة، ليست الثغرة التي أقصدها، ذات علاقة بزيارات الأقدمين الى القدس، في العهود الرومانية والبيزنطية وفي أيام الانتداب وسواها، فضلاً عن الإسراء والمعراج، مثلما استرسلت المحاججة الرسمية الفلسطينية. فكل تلك الزيارات جرت في ظروف أبعد ما تكون عن سمات الواقع الراهن وأسبقياته، وقبل نشوء الجغرافيا السياسية بشروطها الراهنة، وغير موصولة بطبيعة الصراع مع الصهيونية تحديداً. فالثغرة التي أعنيها، هي أن القرضاوي ألقى بحجر التحريم دونما تمييز بين زائرين وزائرين أو حالات وحالات. فمسألة زيارة القدس لا تؤخذ بالإجمال، لأن التفصيل في الأمر، يوضح أن بعض ـ وليس كل ـ ما يقوله القرضاوي خطأ، وأن بعض ما يقوله الرأي الآخر صحيح. وقد سمعت قبل يومين، تكراراً لما كتبناه قبل نحو شهرين، حول جانب من المسألة، بلسان الشيخ عكرمة صبري، الذي يتبنى موقف القرضاوي. وبالمناسبة، لا يجوز هنا الدفع بعدم نزاهة أي إنسان، فيما يطرح من مواقف.

قلنا يومها إن هناك ضرورة لتعيين الفارق بين حالتين أولاهما أن لا غضاضة في أن يتوجه مسلمو بلد غير عربي، الى القدس، مستفيدين من علاقات بلدانهم بإسرائيل، وحصول الإسرائيليين على تأشيرات لزيارة تلك البُلدان، أي الاستفادة من تأشيرات في الاتجاه الآخر بقصد زيارة الأقصى، لا سيما وأن لا مقاومة للتطبيع في تلك البلدان، ومنها تركيا والهند وجميع الأقطار الأوروبية. أما الحالة الثانية، فإن السياسي فيها يلتبس مع الديني وتتفرع المسألة. فالشعوب والقوى الوطنية السياسية، في الأقطار العربية ذات العلاقات الديبلوماسية مع إسرائيل، لا ترغب في مشاهدة طوابير المواطنين أمام السفارة الإسرائيلية، للحصول على التأشيرات. وبسبب مقاومة التطبيع، يمر الناس من قناتين للتدقيق، واحدة من المصالح الأمنية للبلد نفسه، لكي لا يختلط القصد الديني مع مقاصد أخرى لفئة الشباب، أقلها التسرب الى سوق العمل الإسرائيلية بما فيها من افتراضات أمنية تضاعف من الجهد المطلوب لمتابعة من يذهبون الى إسرائيل. فهذه الأخيرة، معنية دوماً، بتجنيد عملاء. والقناة الأخرى، هي تدقيق مصالح الأمن الإسرائيلي نفسه، التي لن تمنح التأشيرة لناشطين في أحزاب سياسية أو متدينين. ثم إن هناك بلدانا إسلامية ـ فضلاً عن الغالبية العظمى من الأقطار العربية ـ لا علاقة دبلوماسية بينها وبين إسرائيل، وبالتالي لا توجد السفارة التي تمنح التأشيرة لمواطني هذه البلدان. وعندما نقول للناس اذهبوا الى القدس وأن هذا واجب شرعي، دون أن نراعي الفوارق بين الحالات، فكأننا نقول لمن ليس عندهم سفارات إسرائيلية، إن حظكم عاثر. أما الدول التي فيها سفارات لإسرائيل، فكأننا نقول لقواها الاجتماعية والسياسية ولمرجعياتها الدينية «لا تقلقي من الطوابير أمام السفارة الإسرائيلية». ثم إن الزيارات، في التعريف الاقتصادي، ليست إلا سياحة دينية، وهذه السياحة، هي شكل من أشكال التطبيع، إذ لكل سياحة دينية منطقها السياسي، وليس أدل على ذلك من زيارات المؤمنين المسيحيين الى بيت لحم، إذ نرى في سياحتهم الدينية ترويجاً وتعميقاً لفلسطينية المدينة في واقع الحياة وفي تدابير السيطرة الشرطية ووضعية السلطة، وهذا هو مؤداها السياسي الأهم. بالتالي ترانا نتهلل فرحاً بالزيارات المسيحية الى بيت لحم، وإن مرت عبر المنافذ الإسرائيلية، بينما نتمنى أن تتولى الملائكة، تذكير السائحين الى كنيسة القيامة في القدس، بأن هذه المدينة فلسطينية!

وعندما نقول للناس في الدول التي لا علاقات ديبلوماسية بينها وبين إسرائيل؛ اذهبوا لزيارة الأقصى كواجب ديني، فإن السُذج سيشعرون بالمرارة لعدم وجود سفارة إسرائيلية. فإن كنا ندعو الى زحف المسلمين الى بيت المقدس؛ ينبغي أن نراعي الكثير من الحساسيات التي يختلط فيها السياسي بالقيمي بالأمني والاقتصادي. فالزحف المبتغى، لن يتخذ الشكل الذي يتخيله اصحاب المشورة الناقصة، بل إنه أولاً وأخيراً، سياحة يستفيد منها المحتلون اقتصادياً، بدءاً من رسوم التأشيرة، وانتهاءً بآخر وجبة طعام. ولو أن الزيارات اقتربت من صفة الزحف، فإن المحتلين سيتكفلون بمنعها من عند نقطة الانطلاق. ومن يصل من الزاحفين، ستتولاه أجسام البنادق وحتى رصاصها، بأضعاف العنف الذي حدث مع المتضامن الدنماركي المضروب على وجهه.
وعندما يتوجه رمز سياسي أو ديني، عربي، مفعماً بكل المقاصد النبيلة، الى القدس، فإنه لن يؤسس لخطوة الزحف. ولماذا نبتعد: إن كانت زيارة الشيخ علي جمعة مهمة في دلالاتها التضامنية، فلماذا لا يذهب للصلاة في كل جمعة، من يحملون بطاقات VIP من جماعتنا أنفسهم، فتكون الدلالة أبلغ وأقرب الى معنى الصمود والتضامن، ويلعلع الخطاب الذي نريد، من منبر الأقصى؟!

لقد أحزننا ما جرى للشيخ علي جمعة. فقد عزّت عليه، وهو قامة فقهية عالية، سبل التعليل. استعان بالشكر لله، وبالدعاء، ثم أحال مسؤولية الرحلة «السلسة» التي بلا أختام إسرائيلية، على سواه. كل ذلك لأن البحر عالي الموج، ولأن فرضية الزحف من خلال زيارات الرموز، غير واقعية. إنها زيارات لمشاهدة واقع احتلالي. أما تركيزنا على هذه المسألة أو تلك، في السياق السياسي، فيتوجب أن ينبثق عن عملية تشاور أوسع، لا يشارك فيها منافقون وضئيلو ذمم وعديمو رؤية سياسية. 

السابق
وضع الاسرائيليين في الخارج
التالي
السجن 8 أشهر فقط لشرطي إسرائيلي قتل فلسطينيا مكبلا