اللحم الفرنسي الحلال

صار الإسلام قضية جدية في فرنسا، التي كانت ولا تزال أحد أهم البلدان المعتمدة لقياس معدل العنصرية في المجتمعات الغربية.
الجبهة الوطنية التي أسسها جان ماري لوبن في ثمانينيات القرن الماضي وورّث قيادتها العام الماضي الى ابنته مارين، هي الحدث الاستثنائي الفرنسي اليوم، اثر حلولها في المركز الثالث في الدورة الاولى من الانتخابات الرئاسية الفرنسية، بمعدل أصوات قياسي بلغ ١٨،٥ بالمئة. لم يعد جرس الإنذار للإسلام والمسلمين الفرنسيين خافتا. ولم يعد الصراع معهم مجرد حالة تطرف معزولة ومنبوذة، تظهر في المناسبات والأعياد الوطنية او التاريخية او حتى الدينية. يمكن الحديث عن ظاهرة سياسية واجتماعية جذرية، يتقدم بها المجتمع الفرنسي على سواه من المجتمعات الاوروبية الغربية، التي أنتجت مثل هذه الظواهر لكنها لم تمنحها هذا القدر من الشرعية.

ليست العنصرية طارئة على المجتمع الفرنسي، والغربي عموما. الفكرة في الأصل غربية وكذلك نقيضها الذي انبثق من التجارب الفاشية في أعقاب الحرب العالمية الثانية الى مصالحة سياسية وثقافية حقيقية مع الآخر، حتى المسلم الذي فتحت له أبواب الغرب ومصانعه ومزارعه ومدارسه المعاد بناؤها، والذي اندمج في تلك المجتمعات بشكل عميق وواع وبمعدلات تفوق التسعين بالمئة.
الخلل جرى في العقود الثلاثة الماضية عندما زادت التحديات على الاقتصاد الفرنسي، فحصل الافتراق الاجتماعي الذي اضطر الجيل الجديد من المهاجرين الى البحث عن هوية بديلة، أو عن الهوية الاصلية، التي لم يكن تكوينها الوطني (أو القومي) جذابا، لكن محتواها الاسلامي كان مغريا ومفيدا في المواجهة مع الوطنية الفرنسية التي كانت جبهة لوبن حدها الأقصى، والتي اصبحت اعتبارا من يوم امس البديل الثالث بين حزبين تقليديين تمكنا بصعوبة من تخطي عتبة الخمسين بالمئة.

يمكن القول ان الجمهور الفرنسي المتميز اصلا بضيق صدره وتبرمه الدائم ملّ من الليبراليين والاشتراكيين الذين ازدادوا شبها وقربا من بعضهم البعض، لكن منح الجبهة الوطنية ما يقارب خمس أصوات الناخبين ليس عملا انفعاليا او عفويا. ثمة ما يبرر الحديث عن حالة استقطاب جديدة في فرنسا، يرجح ان ترذلها النخبة الفرنسية لكنها لا تستطيع ان تنكرها او ان تعتمد في مواجهتها على أئمة مساجد اكثر من خمسة ملايين مسلم فرنسي، نادوا يوم الجمعة الماضي بالتصويت للمرشح الاشتراكي فرنسوا هولاند، في خطوة غير مألوفة حتى في بلاد المسلمين.

لا يمكن الخلط بسهولة بين موقف مارين لوبن المعارض للمؤسسة الاوروبية وبين موقفها المناهض للإسلام، الذي أتاح لها تحقيق مثل هذا الاختراق المذهل في صناديق الاقتراع… والذي يمكن ان يتيح لها الاقتراب يوما من قصر الإليزيه او من بقية قصور الحكم في فرنسا، اذا ما استمرت تلك الظاهرة الانعزالية المقابلة، التي تجعل من اللحم الحلال قضية، وتسهم في إنتاج قتلة مثل محمد مراح، الذي لم يثبت حتى الآن أنه كان متدينا.

السابق
الصحافة اللبنانية تودّع عدلي الحاج
التالي
ابو فاعور: لكشف كامل ملابسات قضية الإمام الصدر ورفيقيه وانهاء الملف