معجزات لبنانية

ما زال لبنان يصنع المعجزة تلو الأخرى، وما زال يقدم مثالاً يتعارض مع تاريخه، ويتناقض مع جوهر وجوده: ما زال يحتفظ بسلمه الاهلي على الرغم من الزلازل المحيطة به التي سبق لأقل منها خطورة بل وأهمية ان زعزعت كيانه وقوضت دولته وفككت مجتمعه ودفعت شعبه الى القتال.

المعجزة الكبرى لم تحصل صدفة. سبقها تحوّل جذري في مسيرة العالم العربي، وفي طبيعة دوله وأنظمته التي تشكلت في مرحلة ما بعد الاستعمار الأوروبي والإسرائيلي: نظام عربي كامل ينهار من الداخل وبضغط من قوى وعوامل محلية مؤثرة، بينما يحافظ لبنان على قدر نسبي لا بأس به من الاستقرار الداخلي، بما ينبئ بعودته الى سيرته الاصلية التي لم يكتب لها النجاح، باعتباره بلداً يحظى بوضع خاص نتيجة تركيبته السكانية الفريدة وضعف بنيانه السياسي والاجتماعي.
في الأدبيات السياسية العربية، ما يوحي بأن الفكرة الاولى عن لبنان كانت تختصر بالتسليم انه تركة أوروبية ذات مكوّن مسيحي وازن، يمكن أن تستخدم كحزام سياسي وثقافي او كممر الى الغرب. لكن هذه الفكرة لم تصمد طويلاً لدى أي من العرب الذين أغراهم لبنان وأغواهم اللبنانيون حتى صار البلد الصغير مستقراً لجميع الثورات العربية..عدا الثورة الديموقراطية الحالية التي كان يتوقع أن تلهب حماسة الجمهور اللبناني الى حد حمل السلاح والشروع بإطلاق النار.
ظاهرة استثنائية فعلاً أن ينعم لبنان بالهدوء والسكينة النسبية بينما محيطه العربي المباشر يغرق في فوضى التغيير وتحدياته. وان يبدو لبنان للمرة الاولى في تاريخه أشبه بجزيرة معزولة تلتزم حياداً سويسرياً وتقاوم النداءات الصادرة من الداخل والخارج من اجل الالتحاق بالركب وإحياء وظيفة الساحة المشرعة والحدود المفتوحة.. التي لم تنضبط منذ عقود طويلة كما هي منضبطة اليوم، برغم بعض الانتهاكات.

هذه المعجزة ليست وليدة الصدفة. هي نتيجة تراكم وعي عام بني على الحروب الاهلية الماضية وعواقبها الحاضرة، يكتشف للمرة الاولى حجم لبنان المتواضع ووزن شعبه الخفيف ودوره الأخف في التأثير على مجرى هذه التحولات التاريخية التي يشهدها العالم العربي.. ويختبر للمرة الاولى منذ الثورة الناصرية فرصة الاستفادة النفعية من الاضطرابات العربية.
هي معجزة ان يظل لبنان هادئاً مع مرور اكثر من سنة على العاصفة المدمرة التي تضرب سورية خاصة. قد يعزى السبب الى التواضع والتعقل، او الى الحسابات الجديدة المتغيرة لموازين القوى. كما قد ينسب الى الصدفة العابرة، التي لا تبرر سوء الظن باللبنانيين… الى حد الاعتقاد أنهم صاروا مثل الشعب السويسري.

المعجزة صامدة حتى الآن، لكن انهيارها في أي لحظة وارد ايضاً.

السابق
دقت ساعة الحقيقة
التالي
أكثر من ألف مشارك في سباق صيدا لجمعية بيروت ماراتون