قبلة الحياة آتية في سورية

من يراهن على التزام النظام السوري مبادرة كوفي انان، انما يراهن على سراب بغض النظر عن توجه مراقبين دوليين الى سورية… ام عدم ذهابهم اليها. المسألة تتجاوز المراقبين الدوليين. ما على المحك مستقبل بلد عربي بات مهددا. تمرّ سورية حاليا بمرحلة مصيرية في ظلّ نظام يرفض الاعتراف بانه انتهى. لا يشبه النظام السوري سوى تلك الانظمة التي تحكّمت بدول اوروبا الشرقية فترة طويلة من الزمن امتدت بين العامين 1945 و1990.

عاشت تلك الانظمة نحو خمس واربعين سنة، اي ما يقارب عمر النظام السوري الحالي. كانت تلك الانظمة مرفوضة من شعوبها. انتهت مع انتهاء الاتحاد السوفياتي. منذ سقوط جدار برلين في تشرين الثاني- نوفمبر من العام 1989، كرّت السبحة. استعادت المانيا الشرقية حريتها وعادت الى المانيا. لم تمض اشهر الاّ واستعادت تشيكوسلوفاكيا بدورها حريتها ثم اختارت بطريقة حبية ان تصبح دولتين هما تشيكيا وسلوفاكيا. عادت هنغاريا الى اهلها، كذلك رومانيا التي تخلّصت من عائلة حاكمة جسّدت كل انواع التخلف والوحشية. على الدرب نفسه سارت كلّ من بولندا وبلغاريا.
لم تكن يوغوسلافيا جزءا من المنظومة السوفياتية. انتهت يوغوسلافيا مع انتهاء تيتو الرجل الذي وحّدها وتوفي في العام 1980. انتهت يوغوسلافيا بعد عقد على وفاة تيتو دولا عدة اثر سلسلة من الحروب التي حركها انفلات كل انواع الغرائز.
دفعت يوغوسلافيا ثمن الوحدة غير الطبيعية التي استطاع الماريشال جوزف بروز تيتو فرضها بفضل شخصيته القويّة. ما لا يمكن تجاهله ان تيتو، احد مؤسسي حركة اللانحياز، تحدّى ستالين عندما كان في عزّ قوته وجبروته وابقى على مسافة بين بلده والاتحاد السوفياتي. لكنّ ذلك لم يحل دون انفراط عقد يوغوسلافيا في مرحلة كانت دول اوروبا الشرقية تستعيد حريتها!

لم يكن الوضع في اي دولة من دول اوروبا الشرقية طبيعيا. كانت هناك شعوب تقاوم الديكتاتوريات والانظمة الامنية والدبابات السوفياتية منذ ضمها الى دائرة النفوذ السوفياتية. قاومت هنغاريا الظلم، فكانت انتفاضة بودابست في العام 1956 تعبيرا عن تلك المقاومة. وكان «ربيع براغ» في العام 1968. اما بولندا، فلم ترضخ او تهدأ يوما وقد لعبت كل من الكنيسة الكاثوليكية والحركة النقابية دورا حاسما في مجال تأكيد ان انظمة تقوم على الامن وعلى دعم الدبابات السوفياتية لا يمكن ان تستمرّ الى ما لا نهاية.

بعد تحرر دول اوروبا الشرقية، لم يبق في العالم سوى عدد قليل من الدول تتحكم بها الاجهزة الامنية. بقي مثلا النظام العراقي، وهو نظام عائلي- بعثي يشبه الى حد كبير النظام السوري. اعتقد صدّام حسين في العام 1990 انه لا يزال في استطاعته لعب دور اكبر من دوره. ذهب الى الكويت هربا من ازمته الداخلية. لم يجد من ينقذه عن طريق صفقة يعقدها مع الولايات المتحدة. تخلّى الاتحاد السوفياتي، الذي كان في اواخر مراحل التحلل، عن صدّام ونظامه وترك المجتمع العراقي يتفكك والمؤسسات العراقية تنهار من داخل في انتظار التدخل العسكري الاميركي في العام 2003.
من سوء حظ سورية اقتناع النظام فيها انه يستطيع الرهان على روسيا التي تعتقد انها ورثت قسما من القوة التي كان يمثلها الاتحاد السوفياتي. كلّ ما تفعله القيادة الروسية حاليا يتمثل في البحث عن صفقة تستفيد منها موسكو وليس النظام السوري. ان عذابات الشعب السوري تبدو آخر همّ من هموم القيادة الروسية التي تدرك قبل غيرها ان ليس في الامكان تغيير مجرى التاريخ. لو كان ذلك ممكنا، لكان الاتحاد السوفياتي لا يزال حيّا يرزق.

في حال كان فلاديمير بوتين وديمتري ميدفيديف يمتلكان حدّا ادنى من الشعور الانساني، لكانا افهما النظام السوري انه ليس اقوى من النظام الروماني ايّام تشاوشيسكو ولا النظام البلغاري ايام جيفكوف ولا النظام الالماني الشرقي ايّام اريش هونيكر. في آخر المطاف، جاء ميخائيل غورباتشوف الى برلين وتكرّم على الزعيم الالماني الشرقي بقبلة الموت. كانت قبلة على الفم على الطريقة المتبعة بين زعماء دول حلف وارسو. لم تكن تلك القبلة في الواقع سوى قبلة الوداع لهونيكر والنظام وقبلة الحرية والحياة الكريمة للالمان. كان غورباتشوف يعرف ان كلّ شيء انتهى وان ليس في الامكان انقاذ انظمة لا تمتلك سوى الشعارات والدبابات لاكتساب شرعية ما. وهذه بالضبط حال النظام السوري الحالي.
مهّدت تلك القبلة لاستعادة المانيا وحدتها. كانت قبلة غورباتشوف لهونيكر بمثابة قبلة الرحمة للشعب الالماني كلّه. اظهر غورباتشوف انه رجل عظيم يعرف الى اين يتجه العالم.

برفض موسكو التكرّم بقبلة الموت على النظام السوري، وهي في الواقع قبلة الحياة، فهي تسمح بقتل آلاف السوريين الابرياء الذين لا يريدون سوى استعادة حريتهم وكرامتهم. هل تفعل ذلك عن قصد من منطلق رفض الاعتراف بان هناك عالما جديدا نشأ عن انهيار الاتحاد السوفياتي؟ هل هناك في موسكو من لا يريد الاعتراف بانّ جدار برلين انهار قبل ثلاثة وعشرين عاما، ام ان كلّ ما في الامر ان موسكو تعتقد ان في استطاعتها الاستفادة من حرب اهلية في سورية تؤدي الى تقطيع اوصال البلد؟ انه بالفعل منطق اللامنطق في عالم معروف فيه مصير نظام مثل النظام السوري، نظام في مواجهة يومية مع شعبه.
المسألة مسألة وقت ليس الاّ. ليس طبيعيا ان تتوقف رياح الحرّية عند ابواب دمشق وحلب. ليس طبيعيا ان يتفرّج السوريون على النظام يزيل احياء كاملة في حمص عن الخريطة. قبلة الحياة للشعب السوري آتية لا محالة مهما بلغت درجة الوحشية والدعم الايراني والروسي للنظام…

السابق
حادثة لافتة
التالي
أوباما يدعو إلى محاربة معاداة السامية واعتراف الجميع بالهولوكوست