وداعاً لأجندة الديموقراطية!

خلال العقود الأربعة الماضية شكل الترويج للديموقراطية مكوناً أساسيّاً من سياسة الولايات المتحدة الخارجية العامة؛ حيث تبنى الرئيس جيمي كارتر هذه الأجندة، ودفع بها رونالد ريغان باعتبارها سلاحاً فعالاً في زمن الحرب الباردة. ومنذ ذلك الوقت، تبنى الرؤساء المتعاقبون مبادرات تروّج للديموقراطية، وإن لم يكن أي منها يرقى إلى الحماسة الإيديولوجية التي طبعت سياسات إدارة بوش السابقة. وفي الفترة الأخيرة، أصبحت هذه الأجندة موضوعَ نقاش ساخن هنا في الولايات المتحدة وخارجها؛ حيث تتعرض بعض هذه البرامج للهجوم في البلدان العربية؛ في حين أن منتقدي إدارة أوباما من عهد بوش لا يتوانون عن مهاجمة الرئيس، في واشنطن، بدعوى أنه لم يبذل ما يكفي من الجهود للترويج للديموقراطية في العالم العربي، وأنه لم يعمل على الدفاع عن جهود الديموقراطية الأميركية في الخارج.

وبعض مسؤولي إدارة بوش هؤلاء كانوا حاضرين في مؤتمر حول الترويج للديموقراطية بكلية كينيون كوليدج الأسبوع الماضي، حيث دافعوا عن وجهة نظرهم. وقد كنتُ من المشاركين في هذا الحدث أيضاً.
ويدفع أنصار الترويج للديموقراطية بعدد من الحجج للتدليل على صحة ما يذهبون إليه، وذلك من قبيل: «الأمر يتعلق بالوفاء لقيمنا»، و«ذلك يصب في مصلحتنا»، و«من واجبنا الأخلاقي تحسين الظروف الإنسانية»… وكلها أشياء تجد صدى لها بين الجمهور الأميركي الذي يستجيب بشكل تلقائي لأي إشارة إلى «مُثلنا» والقول بـ«الاستثناء الأميركي». لكن بغض النظر عن القوة والانفعال اللذين قد يطبعان هذا الحديث الأميركي برمته، فإنه يتجاهل سؤالاً أساسيّاً لا بد من الإجابة عنه من البداية، وهو: «هل ينبغي على أميركا أن تنخرط في الترويج للديموقراطية في العالم العربي؟». في الملاحظات التي أدليتُ بها في هذا المؤتمر، قدمتُ رأياً مخالفاً يقول ببساطة: «لا».

ولديَّ عدد من الأسباب التي تفسر لماذا اتخذت هذا الموقف. أولًا وقبل كل شيء، أعتقد أن أميركا ليست في وضع يسمح لها بأن تروج للديموقراطية لأننا لا نعترف بالضرر الذي لحق بـ«ماركة أميركا». فإذا كان العديد من الأميركيين ما زالوا يرغبون في رؤية أنفسهم كـ«المدينة البراقة على المرتفع»، فإننا بكل بساطة لا ندرك أن تلك ليست هي الطريقة التي ينظر بها معظم العرب إلينا. ذلك أن حربين كارثيتين دمويتين في العراق وأفغانستان؛ والتغاضي عن الانتهاكات الإسرائيلية للحقوق الفلسطينية؛ ومعتقل غوانتانامو وفظاعات سجن أبو غريب؛ والتعذيب، وعمليات التسليم الاستثنائي؛ و«المواقع السوداء»؛ وأخطاء معاملة العرب والمسلمين في أميركا… كلها عوامل أثرت سلباً في مصداقيتنا كمدافعين عن الديموقراطية وحقوق الإنسان.

ثم إن استطلاعات الرأي التي أجريناها عبر العالم العربي تظهر أن الآراء الإيجابية حول أميركا لم تنزل إلى الحضيض فحسب، ذلك أنه عندما يُطلب من المستجوَبين ذكر اسم «أكبر تهديد للسلام والأمن في المنطقة»، فإنه كثيراً ما يشار إلى الولايات المتحدة. ومثلما توضح استطلاعات الرأي أيضاً، فإن أهم ما يريده العرب من أميركا ليس الترويج للديموقراطية، وإنما أن تلعب دوراً في الضغط على إسرائيل حتى تنهي احتلالها للأراضي الفلسطينية. وإضافة إلى ذلك، فإن العديد من العرب يعتقدون أن الاستثمارات الأميركية يمكن أن تساعد على خلق الوظائف وبناء قدرات بلدانهم. وعلى الرغم من حقيقة أن بواعث القلق المتعلقة بالإصلاح والديموقراطية قد صعدت في عدد من البلدان العربية إلى صدارة أولى الأولويات السياسية، إلا أن العرب لا يشيرون إلى أنهم يريدون مساعدة أميركية في هذا الباب، يل ينظرون إلى ذلك على أنه تدخل غير مرغوب فيه في شؤونهم الداخلية.

صحيح أن هناك عناصر تسعى جاهدة وراء دعم أميركي، فالبعض في المعارضة الليبية والسورية مثلاً يطلب المساعدة، آملين أن تقوم الولايات المتحدة بـ«المهمة» نيابة عنهم. كما أن ثمة أيضاً بعض نشطاء «الديموقراطية» الذين وجدوا أنه من المفيد تطوير علاقة رعاية خاصة مع أميركا. غير أن أيّاً من هذه الأمور لا يغير من حقيقة أن الانخراط الأميركي في الترويج للديموقراطية هو أمر غير مرغوب فيه بتاتاً بالنسبة لأغلبيات كبيرة عبر العالم العربي أو ينظر إليه على أنه غير ذي مصداقية.

ولأننا لا نصغي لأصوات العرب أو نحترم الرأي العام العربي، فإننا نتحرك على نحو أعمى في المنطقة، حيث لا نرى إلا ما نرغب في رؤيته، ولا نسمع إلا تلك الأصوات التي تقول ما نرغب في سماعه. كما أننا لا نفهم المجتمع العربي أو الأولويات السياسية للشعب العربي أو تطلعاته الحقيقية. وبسبب إحساسنا بالتفوق الثقافي، فإننا نفترض نجاح نموذج «حجم واحد يناسب الجميع». ثم إن الأشخاص الذين يرغبون في ما لدينا لنقدمه نحتفي بهم كديموقراطيين «مثلنا تماماً». أما الأشخاص الذين لا يرغبون فيه، فنشجبهم باعتبارهم «متخلفين».

وخلاصة القول ان لدينا معرفة قليلة جداً بتاريخ وثقافة وشعوب المنطقة بما لا يساعدنا حتى على ان نلعب دوراً بناءً في تحويل مجتمعاتها. فالخطأ الذي ارتكبناه في أفغانستان والعراق لم يكن بسبب أننا اعتقدنا أننا نستطيع استعمال القوة لخلق نظام ديموقراطي، وإنما لأننا افترضنا أننا نستطيع لعب أي دور بناء في تغيير بلدان وشعوب لا نعرف عنها إلا القليل أصلاً. وهذا ينطبق على حروبنا الفاشلة، مثلما ينطبق على جهودنا للترويج للديموقراطية.
وما يحسب لأوباما فهم الأمر على النحو الصحيح قبل عام عندما تحدث عن دور أميركا في «الثورات العربية»؛ حيث أشار إلى أنه علينا أن نقارب هذه التطورات بنوع من التواضع؛ فنحن لم نخلق هذه الثورات (على رغم محاولات بعض مسؤولي إدارة بوش السابقين نسبة الفضل في ذلك إليهم)، ولا نستطيع تزعم مساره أو توجيهه. أما ما نستطيع فعله، فهو المساعدة من خلال تقديم المساعدات الاقتصادية لتوفير أمل في مستقبل أفضل، ومن خلال حل النزاع العربي – الإسرائيلي. وبالتالي، فقد كان الرئيس محقاً؛ لكن ذلك للأسف هو ما لم نقم به بعد.

السابق
شريف الأخوي حاضراً في ذكرى الحرب
التالي
صور لجنود يعبثون بجثث مقاتلين !