قيود المحرقة

قبل بضع سنين أعطي لي الحق في ان أقود باعتباري قائدا وفدا من 200 ضابط رحلة «شهود باللباس العسكري» الى معسكرات الابادة في بولندا. كانت التجربة الشعورية في الرحلة عميقة ومهمة جدا بالنسبة إلي وعزمت على التعمق في الموضوع. ومنذ ذلك الحين أصبحت خريج دورة ارشاد مرشدي بولندة تابعة لـ «يد واسم»، وأصبحت مرشدا لوفود فتيان الى بولندا.
قبل نحو من سنتين شاركت في مؤتمر دولي في لندن تناول المسيرة السياسية بين اسرائيل والفلسطينيين. وعند نهاية المؤتمر تقدمت إلي استاذة جامعة بريطانية جليلة وتطرقت الى أنني أعمل بموضوع المحرقة وبدأت فورا هجوما شديدا على اسرائيل التي تستعمل كما تزعم ضحايا المحرقة لتدفع شؤونها الى الأمام، ولهذا لن تصبح أبدا دولة طبيعية قادرة على اتخاذ قرارات شجاعة تتعلق بمستقبلها. اجل اتهمت الشعب اليهودي بأنه جعل حادثة كونية هي قتل شعب جعلها حادثة تخص اليهود وحدهم.

ان تناول المجتمع والقيادة الاسرائيلية للمحرقة وللناجين من المحرقة جرى عليه تحول على أثر محاكمة آيخمان التي كانت أول مرة منح فيها الناجون منبرا ليعرضوا قصتهم بعد الصمت الكبير الذي فرضوه على أنفسهم بسبب عدم الحساسية الذي صادفوه مع بناء حياتهم من جديد في اسرائيل. وعلى مر السنين يقوى الوعي للمحرقة في المجتمع الاسرائيلي وتصحبنا آثار المحرقة وصور المحرقة في كل خطوة تقريبا.
ان رسائل ثابتة تدعو الى تعميق وعي المحرقة تؤكد التغيير في الاعتماد على قوتنا العسكرية في مقابل عجزنا في الشتات؛ والاستقلال والسيادة في مقابل تعلقنا في الماضي بالارادة الخيرة للشعوب؛ ورفض الجلاء والحاجة الى وطن قومي للشعب اليهودي في اسرائيل. ان كل الرسائل تؤكد التغيير الحاد الذي طرأ على تاريخ الشعب اليهودي مع انشاء دولة اسرائيل. لكن رسالة واحدة بقيت كما كانت بل انها قويت، وهي التحول عن شعور بعزلة وجودية بين الأغيار الى تصور تهديد وجودي يتوالى.

في خطبة رئيس الوزراء في مؤتمر «ايباك»، وبعرضه وثائق طلب الهجوم على اوشفيتس، أُثير في ذاكرتي مرة اخرى الجدل العاصف مع الاستاذة البريطانية. أكانت على حق في زعمها ان اسرائيل بقيت متمسكة بموقف الضحية وأنها تتخذ قرارات للمحرقة فيها وزن زائد؟ والى ذلك فانني أقرأ وأسمع احيانا من نظراء في الدول الغربية ان دولة اسرائيل نشأت بسبب المحرقة وحدها تعويضا عن ان الدول الغربية لم تهب لانقاذ اليهود في الحرب العالمية الثانية. وهم يرون ان انشاء الوطن القومي للشعب اليهودي هو نتيجة اجراء غير طبيعي بل غير شرعي، وكل ذلك مع تجاهلهم الحقائق التاريخية للحركة الصهيونية واعلان بلفور وهدف الانتداب البريطاني وغير ذلك.

أنا أشارك واؤيد النشاط الواسع لتعميق ذكرى المحرقة في البلاد وفي العالم وإشراب النفوس أنها حادثة لم يسبق لها مثيل في التاريخ البشري. ومع ذلك يجب علينا ان نتحرر من قيود المحرقة وان نتخذ القرارات المصيرية المتعلقة بمستقبلنا من غير تأثير المحرقة الزائد بل مع تأكيد تحديات المستقبل مع بناء تفوق استراتيجي يمنح دولة اسرائيل طائفة متنوعة واسعة من الخيارات من اجل ان تدفع الى الأمام بحياتها وأمنها ونموها. ان الاستعمال المتكرر لدعوى المحرقة والبحث عن التهديد الوجودي التالي لا يخدمان هذه الأهداف ويعززان الصورة عن اسرائيل بأنها دولة تعاني أعراض الضحية، وأن تصرفاتها غير متوقعة على الأكثر بل غير مسؤولة احيانا. وهذا الشيء يخدم اولئك الذين يقولون ان دولة اليهود نشأت بخطيئة ويعترضون على شرعيتها.

السابق
إضراب الأسرى: ملح وماء وروح
التالي
جريح باطلاق نار في برج البراجنة