شيعة 14 آذار.. أبعد من كونهم حبة الكرز

لا حظّ لشيعة "14 آذار".
لطالما عوملت هذه الفئة بأنها حبّة الكرز المحلاة التي ينبغي ألا تغيب عن حلوى المناسبات الكبيرة، كالذكرى السنوية للتظاهرة التي حملت القوى اسمها، أو ذكرى اغتيال الرئيس رفيق الحريري.
كرزة لطيفة وبرّاقة، تخرج إلى المنبر لتلقي خطابها الرنّان، وتستخدم لمرة واحدة ثم تأتي غيرها في العام المقبل، بينما ممثلو بقية طوائف وقوى 14 آذار ثابتو الوجوه، لا يطالهم تغيير ولا تبديل.
بعد الذكرى، يُنسى أمر رفاق "ثورة الأرز"، فيسقطون في الغبن المزدوج. معظم الرأي العام في طائفتهم ينظر إليهم بصفتهم كارهي أنفسهم، إذا كان الحكم مخففاً، أو خونة تابعين للمعسكر الآخر، إذا كان الحكم حاداً، وهو الحكم الأعم في العادة.
لائحة تمايزات هؤلاء تطول، بدءاً من محاولة التعرّف عليهم.

فهم، في التعريف الاولي، أفراد لا يمكن وضعهم في خانة الانتماء إلى "قوى 14 آذار"، وإن كانوا ينتمون إلى الأحلام الكبيرة التي حملها ذاك النهار، قبل أن يتشارك في القضاء عليها أبناء 14 آذار وخصومهم معاً ويداً بيد.
هؤلاء الشيعة الأفراد، "المختلفون" عن السائد الشيعي، ليسوا إلى هذه الدرجة مختلفين. هم نتاج الطائفة وتاريخها وديموغرافيتها. فيهم المثقفون، وبعضهم يكاد يشكل علامة فارقة على المستوى العربي، وفيهم رجال الدين، وفيهم اليساريون السابقون والحاليون، وفيهم الليبراليون الذي يرون في الولايات المتحدة الأميركية حليفاً، وفيهم الاعلاميون والفنانون والناشطون سياسيين أو في المجتمع المدني، وصولاً إلى أبناء العائلات التقليدية التي قرر الثنائي الحاكم في الطائفة عدم إدخالها تحت العباءة، أو هي قررت أن تبقى على خصومة مع من أنهى زمانه زمنها. وكما فيهم الذي يرفض أن يكون حراكه السياسي تحت مسمّى طائفي، فيهم أيضاً ابن المظلّة الحريرية الذي يصر على شيعيّته، وعلى كونه ممثلاً لها.

المروحة واسعة، واتساعها في بعضه جيد، وسيئ في بعضه الآخر. فليس منطقياً استثئار خطاب واحد على لغة الاعتراض على استثئار حلف "حزب الله" وحركة "أمل" بكل شؤون وشجون الشيعة. الألوان ضرورة. لكن رافضي السلطة الأبوية للتنظيمين على الشيعة، يفضلون التحرر من أي شكل للتنظيم، حتى ذاك الذي قد يجمعون هم أنفسهم عليه. وكما أن أحداً منهم لم يتطوع ليتقدم خطوة إلى الامام معلناً أنه يمثل أصواتهم، فهم لم يتطوعوا لذلك. بقوا بلا أيقونة.. لذلك، فالصوت الشيعي المعترض، على تنوعه، لم يُسمع مرة بوضوح. ظل هكذا، مشتتاً بين أصوات عدة.

كثير من هؤلاء، كان في صلب فكرة "14 آذار" قبل "14 آذار"، إذا كان عنوان ذاك اليوم هو انهاء الوصاية السورية وخروج الجيش السوري من لبنان، والإيمان بنهائية لبنان كوطن وكيان ودولة. بهذا المعنى، كانوا سبقوا الطائفة السنية إلى اللبننة، غير أنهم بدوا في ذاك اليوم ملتحقين بالسنّة، بل ذائبين بهم. لم يكن هذا همّاً على أي حال. لكن الطوائف عوملت بأعدادها. الشيعة الذين نزلوا فرادى لم ترهم التكتلات الطائفية الاخرى وقررت ألا تأخذهم بجدية. وضع سيظل قائماً دائماً.
قبل نزول الحريرية إلى المعترك السياسي بسنوات، كانت قرنة شهوان تبحث عن شريك مسلم لم تجده إلا في "المنبر الديموقراطي"، بالقامة العالية لعرّابه حبيب صادق. الرجل الذي كان مؤسساً للقاء البريستول، سيأتي يوم لن يجد له كرسياً يجلس عليه في الفندق، وسيفهم بالطبع أن تجمع القوى والمصالح ذاك لا يريده شريكاً، فغادر، مع أنه واحد من أبرز الوجوه في الطائفة الشيعية الذي تكمن فرادته في إصراره على علمانيته، وفي إصراره على عدم اختصاره باسم الطائفة على الهوية، مع إنه ابن حكاياتها كلها.

لاحقاً، في العام 2005، حمّست "14 آذار" الشيعة، فاجتمعوا في الثانوية العاملية معلنين اللقاء الشيعي حول السيد محمد حسن الأمين، بينما كانت هذه القوى تتفق، من فوق اللقاء ومن تحته، مع الثنائي الشيعي على "التحالف الرباعي"، هذا الذي نبذه كل المتحالفين فيه، بعدما انتصف ليل اليوم الأخير للانتخابات النيابية حينها. قضي الأمر، أو معظمه. الباقي مذ ذاك الحين تراكم على هذا الخذلان الأكبر.
"قوى 14 آذار" نفسها كانت سبباً في نبذ المزاج العام الشيعي للشيعة المعترضين. فهي لطالما توجهت إلى الشيعة إما بصفتهم المغلوبين، الذين عليهم القبول بشروط المنتصر في انتصار لم يتحقق، أو طائفة مسلّحة خارجة عن القانون. لم تعرف مرة التوجه إلى الطائفة الا بالخصومة، او بالتكاذب الجلي. جهل هذه القوى بأحوال الشيعة كان، وما زال، مدقعاً.

في المقابل، كان مستحيلاً منافسة خطاب القوة، في كل أوجهه، الذي كان يرفعه الثنائي، من الصواريخ وصولاً الى وظيفة الدولة. وليس منطقياً بالطبع أن تستبدل الطائفة القوة بالضعف.
شيعي غب الطلب. هذا دوماً كان مطلب "14 آذار". شيعي لنهار واحد. يلقي بياناً هنا، او يكتب مقالاً هناك، او يجري مقابلة تلفزيونية يناكف بها مسؤولاً بعينه. شيعي سريع تخرجه هذه القوى من العلبة جديداً حيناً ومستعملاً في حين آخر، ثم تعود إلى توضيبه، لتظل حظوظه بالظهور ثانية في علم الغيب.

أما الأمانة العامة لهذه القوى، والتي كانت استدراكاً أميركياً للفشل في التغيير الذي منيت به "14 آذار"، فاقتصر كل جهدها على البيان الاسبوعي، وعلى الحضور الشيعي الواجب شرعاً على الطاولة الاسبوعية. الأمانة العامة التي كان من المفترض أن تكون الى يسار طوائف "14 آذار"، وتكون مساحة حراك وتعبير لكل الذين لا صوت لهم بين القوى الكبرى، هذه الامانة لم تؤد الدور المطلوب منها، ولم يبد عليها الاهتمام بترجيع صدى الصوت الشيعي والإضاءة على أصحابه.
الانتخابات النيابية الاخيرة شكلت النكران التام المتمم للتحالف الرباعي. لم تبحث المؤسسة الحريرية بعيداً لتجد ولو مرشحاً شيعياً واحداً يمكن نعته بأنه مستقل. أتت بنوّاب من أهل البيت. ثلاثة مقاعد شيعية كان يمكن أن تملأها نواة معارضة تكون بمثابة رأس حربة، ونقطة التقاء كل من يقرر أنه معارض لسياسة "امل" و"حزب الله". مرجعية معنوية لم تفكر قوى "14 آذار" بدعمها. فضّلت عليها مقاعد زائدة في الكتلة تطمئن إلى أكثرية عددية تبين، في آخر النهار، أنها بلا فائدة.
ليس في سجل "قوى 14 آذار" ما يوحي بأنها ستتغير قريباً. على أنها باتت تواجه صعوبة حتى في إيجاد حبة الكرز المحلاة، ومهرجان بيال الأخير خير برهان.

الخارجون عن طاعة الثنائي الشيعي أحبطتهم قوى 14 آذار كثيراً. وهم اليوم، إذا كانوا مع يوم "14 آذار"، فما عادوا يجدون لهم مكاناً مع القوى التي تحمل اسمه.
باتوا خارج الجنتين المتقابلتين، ولم يجدوا لهم بعد جنة خاصة بهم. ما زالوا يعيشون في تيه.

السابق
صور لجنود يعبثون بجثث مقاتلين !
التالي
شهرزاد ببعبدا لزينة دكاش: مسرحية عن النساء لا عن السجينات