شهرزاد ببعبدا لزينة دكاش: مسرحية عن النساء لا عن السجينات

لا شهرزاد هنا. ولا يمكن لشهرزاد أن تحتمل العيش تحت سقف رطب يرشح ماء، وأن تأكل الحمص كل يوم وتنام في غرفة مكتظة مع ثلاثين سجينة أخرى، وتتنزه في شبه قاعة ذات نافذة صغيرة مع تسعين سجينة يطبخن ويغسلن ويتمشين ويتحدثن في آن واحد. إنما زينا دكاش في مسرحيتها الجديدة خلقت «شهرزاد ببعبدا» في سجن النساء حيث الحكايا تطول وتؤلم وتقسو أكثر كل يوم خلف القضبان.
«شهرزاد ببعبدا» العمل المسرحي الجديد لدكاش، الذي افتتح أمس، بعد عشرة أشهر من الجهد المتواصل والتدريب ضمن العلاج بالدراما، ويستمر حتى 11 أيار المقبل في 12 عرضاً.
يوم أمس، تكلمت السجينات، وصمت الجمهور طويلاً، متنقلا بين وجوه السجينات ومتأملاً في تعابيرها وقصصها التي حولتها من امرأة عادية حرّة إلى سجينة. صمت الجمهور، وبكى عدد منه، وربما بينه من المدنيين والناشطين من شعر بالعجز، بل إن المسؤولين أنفسهم من وزراء ونواب وقضاة وضباط في قوى الأمن الداخلي، غرقوا في صمت طويل، كأنهم يرون هذه المعاناة للمرة الأولى من الداخل، أو ربما لأنهم شاهدوا عن قرب مدى تعقيد واقع السجون في لبنان وتخلّفه.
هذا ما دفع وزير العدل شكيب قرطباوي أن يُعلن «انها المرة الأولى التي أرى فيها كل هذه الأمور من هنا، من الداخل، وتبدو لي مختلفة وأقسى مما كنت أعرف أو أراه من الخارج». وأمل أن «تتحسن الأمور عند نقل مسؤولية السجون من وزارة الداخلية إلى وزارة العدل.

مسرح سجن بعبدا غرفة لا تتعدى مساحتها الأربعين متراً مربعاً. المسرح ليس مسرحاً، بل قاعة شيّد على جوانبها خشبة بالكاد يتسع عرضها لممثلة واحدة. والسجن نفسه ليس سجناً، وهو يحبس خلف قضبانه 91 سجينة (68 موقوفة و23 محكومة) موزعات على ثلاث غرف لا رابع لها.
لوهلة يبدو الجمهور «محاصرا» بين السجينات من حيث «هندسة» المسرح، وفي واقع الأمر الجمهور سيحاصر على مدى ساعتين بآلام ثقيلة لهؤلاء السجينات، وبمعاناة هي أبعد من حرمانهن من الحرية. معاناة الماضي والتراكمات والتمييز والإجحاف الذي يمارسه المجتمع على عدد من بناته ونسائه ويحولهن مذنبات. معاناة الحاضر التي تمس هؤلاء السجينات بشكل مباشر من التباطؤ في المحاكمات وتوقيفهن لسنوات من دون محاكمة واكتظاظ السجون وانعدام أي من الظروف الصحية في سجن يتألف من طبقتين ويضم خمس غرف فقط. والاكتظاظ بحسب النائب غسان مخيبر «ليس إلا واحدا من مشاكل السجون في لبنان، المشكلة الأكبر هي أن العدالة مريضة وبطيئة».

أشهر من العمل المتواصل حجزت دكاش، «السجينة بإرادتها» كما بات يُطلق عليها، وراء القضبان. أشهر طويلة حولت فيها سجينات من فاقدات أمل إلى آملات بالحياة، وحالمات بالتغيير. المسرحية التي خرجت بها دكاش كانت «نوعاً من العمل المستحيل الذي تم في ظروف صعبة جداً، كنا نتدرب في هذه الغرفة وإلى يميننا تُقلى البطاطا ويقشر البصل وإلى يسارنا يرفع الغسيل وينشر»، كما تقول. العمل خرج يوم أمس، إلى الضوء وهو مشروع «مركز كثارسيس» الذي تديره دكّاش، وتقوم بتمويله «مؤسسة دروسوس» السويسرية، وهو بالتعاون مع وزارة الداخلية والبلديات ووزارة العدل، و بالتعاون مع «جمعية دار الأمل».

تحول وجود دكاش بين السجينات، وفق مديرة السجن كريستيان أبي ناهض، «علاجاً يمكن لمسه مباشرة بمجرد المقارنة بين حالة السجينات ما قبل المسرحية وحالتهن وأحاديثهن وتخاطبهن وهواجسهن بعد المشاركة في العمل».
كل من السجينات بحر من القصص. كل منهن أشبه بقنبلة موقوتة من الألم، مجموعة كلها في عقل وقلب وجسد إمرأة، هي الآن أمامنا كأنها لا تصدق أنها امتلكت الفرصة لتفرغ ما في قلبها.

المسرحية لا تحكي عن نساء في السجن فحسب. هذه مسرحية عن كل النساء، في نص محترف، شامل، يوثق لمعاناة المرأة في لبنان وحتى معاناة المرأة العربية في مجتمع ذكوري، ويروي فصولاً أليمة منها، من القوانين غير المنصفة إلى التمييز الجندري إلى تعنيفهن المعنوي والمادي والجسدي. هذه المسرحية عن الأنوثة ومعنى الرجل في حياة امرأة عادية تتحول بعد حين سجينة. في النص تحكي دكاش عن وجود وعدم وجود الرجل في حيوات هؤلاء السيدات، فتخرج شخصية «فطومة» السيدة الخمسينية ذات الأسنان الثلاثة المتفرقة لتعلن للجمهور «ما تؤاخذونا لا شهريار لنا في مملكتنا». الرجل في السجن صورة فقط، صورة متخيلة عن رجال الأحلام أو صورة عن رجال كانوا جزءا من الماضي الأليم.
أن نشعر بإنسانية السجينات هو واحد من أهم أهداف أعمال دكاش، وهو ما يعزز وفق الوزير السابق زياد بارود، «ثقة السجينات بأنفسهن، ويساعدهن على الاستمرار بحياتهن بعد تمضية عقوبتهن ويثبت ان لديهن دوراً وقدرات للعودة إلى الحياة». وهو وفق محمد مظلوم السجين السابق والمشارك في عمل دكاش الأول، «12 لبناني غاضب» في سجن رومية، «سبيلهن ليعدن إلى الحياة، كما عدت أنا».

لاشيء يمكن أن يعوض ما فات ويفوت السجينات، لا شيء حتى الأحاديث الوهمية التي تجريها زينب مع أمها يمكن أن تمحو سنوات اعتقالها. عند النافذة تراقب زينب كل التفاصيل في الخارج، ومنها ترى البحر والمطار وطياراته المحلقة وتلك الهابطة، وسيارات وازدحام لا ينتهي. أناس يروحون ويأتون وهي عند النافذة لا تتحرك. ترشف القهوة وتحكي أمها التي تقطن في الطبقة الرابعة من بناية غير بعيدة وتسألها: «كيفوا بابا؟ بعده بيروح على الصيد وبيزمرلك تحت الشباك عند الأربعة الصبح ليصبّحك قبل ما يروح يسترزق بالسمكات؟».

لا تبغي أي من هؤلاء اقناع الحضور ببراءتهن، بل على العكس هن يعلن ذنبهن وندمهن، إنما ما يبغينه فعلا هو الرأفة، هو أن يعلنّ غيابهن عن العالم وعن أبسط تفاصيله. ما يبتغينه هو أن يخبرننا عن حياتهن التي عُلقت وجمدت في حين السنوات تجري كنهر سريع بدونهن. ما يُردنه تحكيه جملة تقولها إحداهن «لو فيّي نام تحت اجرين بيّ وقولّو يسامحني… بس يسامحني». وجملة فاطمة التي تحاكي البحر «تعبت يا بحر، ع بالي اتخبى فيك متل ما الشمس بتتخبى وراك».
أسئلتهن وعواطفهن توشي بتعطشهن لحياة عادية، حياة في الهواء الطلق. يسألن الجمهور فرداً فردا: كيف شكلها الخمسين ألف ليرة الجديدة؟ حلوين ثيابك مدام، هلق هيك صارت الموضة برا؟ الأكل طيب بصحن زجاجي؟ دخلكم شكلي بعده بيشبه المرأة؟ قولكن ابني بعده بيتذكرني؟ وأخيراً تسأل إحداهن السؤال الأصعب الذي يشكل الحد الفاصل بين حياة السجينات وحياة «الأحرار» الذين سيغادرون السجن بعد انتهاء المسرحية، السؤال العادي والأليم في وقت واحد: «صعبة العيشة هون، تاخدوني معكم بس تفلوا؟»

السجينات أمامنا، أخطأن في يوم من الأيام واعتقلن وراء القضبان، إلا أن مذنبات أكثر بأخطاء تؤذي مجتمع برمته ما زلن طليقات يتابعن حياة عادية بدون أدنى ذنب، ومنهن من هي سجينة داخل نفسها. فكرة أخيرة لا تخرج من الرأس بعد الخروج من السجن: بعض هؤلاء في حلقة مفرغة، ظلمهن المجتمع، فظلمن أنفسهن، وعاد السجن ونظامه ليجلدهن ويظلمهن مجددا. من كن أمامنا مذنبات ومظلومات في آن.

السابق
شيعة 14 آذار.. أبعد من كونهم حبة الكرز
التالي
ربطة الخبز.. بـ2000 ليرة ؟!