إضراب الأسرى: ملح وماء وروح

للإضراب عن الطعام، احتجاجاً على انتقاص المحتلين السجانين، من الحقوق الإنسانية لأسرى الحرية؛ طقوس معلومة لكل ذي تجربة اعتقالية، بل إن للإضراب سوسيولوجيا خاصة. فقبل البدء بالخطوة، وهي معركة إرادة يخوضها المناضلون بكل تفصيل من أبدانهم، تُوضع الخطة وتُعتمد بمنطق دفاعي، يراعي ضرورات الحفاظ على ذخيرة الجسم، وعلى صمود الروح. ومع بدء التنفيذ، يكون اليوم الأول زاخراً بالوقائع: تسليم إدارة السجن، الرسالة التي تتضمن مطالب الأسرى، وإفراغ المهاجع من كل ما له علاقة بالغذاء، مع استثناء الملح الذي سيؤدي دوره مع الماء، لملء الأمعاء. فالشباب يقولون إن ملء المعدة بالماء المملح، يُحافظ على ليونة المعدة ويحميها من التعفن، ويُعدّها للأمر الجلل. وفي مساء اليوم الأول نفسه، أو في صبيحة اليوم الثاني، تكون هناك إرشادات لها الطابع العلمي، تتعلق بمواجهة الألم واحتماله، والتطمين بأن الصداع الذي سيشعر به المضربون عن الطعام، في يومهم الثاني، إنما هو مجرد عارض عابر، يمحوه اليوم الثالث!
وبدخول اليوم الثالث، يخف الصداع فعلاً، وتعطي المعدة إشارات التعود، إذ يتضاءل الشعور بالجوع. وفي كثير من الأحيان، تبدأ إدارة السجانين، بأخذ الأسرى واحداً واحداً، الى الميزان، قبل المرور على الممرض الذي يحمل جهار قياس الضغط، وفق تدابير ومعايير يحددونها ويطبقونها لكي يكتبوا تقاريرهم. وتُخصص لليوم الرابع تعليماته الداخلية، التي تقدمها اللجنة المكلفة من قبل الحركة الأسيرة: اليوم، هو موعد الإحساس بالدَوَخان، وهذا عارض أيضاً وسيمر. خفّفوا الحركة، وعند النهوض، لا تقوموا مسرعين لتلافي السقوط. ونفترض أن اليوم الرابع هو أيضاً يوم ذروة الاستفزاز المتعمد من قبل السجانين. لا بد من ضبط النفس، والتصرف برزانة. هم سيقومون بسد كل منافذ الاتصال وقطع خيوط العلم بأصداء الإضراب في الخارج!

وفي سوسيولوجيا الإضراب، تُستطاب الدعابة، التي غالباً ما تكون مادتها، لقطات من التندر المحبب، على مفارقات الجوع عند هذا أو ذاك، وكلها تقع في الفجوة الفاصلة بين الحرمان والتُخمة، ويُمنع التداول في حكاية الطعام، وبخاصة في مباذخه، تلافياً لتأجيج اشتهائه في نفوس السامعين. ويدور الحديث على هذا الصعيد، بمنحى صارم، ولا يصح أن يذهب الجوع بمتحدث الى أخذ دور «الشيف رمزي» أو «منال العالم»، فيما هما يثيران شهية ربات البيوت عبر شاشة التلفزة. فكلما أرخى الجوع عضلة من الجسم، تكفلت مفردات الصمود الى أن تتحقق المطالب؛ بالطبابة النفسية. ويُستعاد بلسان المتفقهين بالدين، الحديث النبوي ومن وحي المناسبة: ما ملأ ابن آدم، وعاءً قط، شراً من بطنه!
كذلك فلا موجب لتكرار أنباء الصفاقة اللامتناهية لحكومة الاحتلال، عندما تناست أكاذيبها عن الديموقراطية، ومنعت الأجانب الناشطين سلماً، من الصعود الى الطائرات أو من الوصول الى الضفة، ولَكَمتْ بعضهم على الوجه، بالأيدي وبأعقاب البنادق، بل فعلت الشيء نفسه مع عابري سبيل، لم يصلوا لكي يتضامنوا، فتعرفوا بالصدفة على الوجه الحقيقي للدولة العبرية وعلى حكمها الظلامي العنصري المستبد!

يمكن أن يقال، في أحاديث الأسرى، ان صَلَف المحتلين، يعكس حال الرهاب وانعدام اليقين، ولا يعكس قدرتهم على كسر الإرادات. فهم لن يكسروا إرادة شعبنا مهما امتلكوا من وسائل القوة والحرب. وفي سوسيولوجيا الإضراب، يحس كل أسير بزميله. يعلمه ويتعلم منه، ويتعمق الإحساس في أعماق كل منهما، بأن لطلاب الحرية، في فلسطين، أهدافاً واحدة، وأن تجربتهما ـ كما معاناتهما ـ واحدة ومتصلة، وأن هذه هي القاعدة، أما الاستثناء، فهو التفاصيل الجانبية والترهات.
بالملح والماء، يخوض المعتقلون واحدة من معارك الكرامة. يجعلون من أبدانهم ساحة نزال. وكلما توغل الإضراب في الزمن، ازداد الشعور بأن الأمعاء، لم تعد قادرة على احتمال هجوم مباغت، مما لذ وطاب من الطعام، لذا لا مناص من عدم الرجوع اليه بلا انجازات، مهما استطالت نظرات السجانين المفضوحين، أو استرحمت دقات قلوب الأمهات اللاتي يشاركن أبناءهن لحظات الألم!

السابق
كابوس يخيم على اسرائيل
التالي
قيود المحرقة