ملهاة الفصام اللبناني 

لكان الأمر مأساة حقاً لو لم يكن المواطن اللبناني شريكاً كاملاً في صناعته، صورة السلطة ودورها ورجالاتها، وواقع أمور الحياة الديموقراطية، التي تحولت من لعبة الى مهزلة كاملة. انه الفصام اللبناني الكامل بين الواقع وما نراه على الشاشات وما يجري بين السياسيين.

واقع الامور أن البلاد كلها تعيش على حافة الحرب، الاهلية والاقليمية، والصراعات الدائرة في كل ناحية، والنزاعات الدولية، وحرائق متواصلة في سوريا، ومحاولات الثورة اليائسة لاحداث تغيير على الحدود الشرقية والشمالية، والطوائف اللبنانية تمنّي النفس بيوم تغزو بعضها بعضاً مجدداً، وتعيد الى بلاد البخور والعسل نزاعاً يحسم السؤال المركزي «اية طائفة تحكم لبنان»، بينما ظاهر الامور نزاعات حول مفهوم الامن الاجتماعي ودور المهاجرين اللبنانيين في الانتخابات النيابية.

ويبلغ القلق المحلي حداً دفع حزب الله مجدداً الى اجراء مناوراته المكتومة في لبنان منذ بضعة اسابيع وطالت العديد من المناطق في العمق المحلي، وانتشرت وحداته في العاصمة سراً ثم عادت وانسحبت من دون ان تثير شكوك أحد. بينما تردد الانباء عن توافد مئات المقاتلين من القوات اللبنانية الى محاور القتال القديمة بعيد تعرض سمير جعجع لطلقات من بندقية قناصة، وعزم عناصر القوات اللبنانية على مهاجمة مناطق الضاحية الجنوبية ورأس النبع لولا مسارعة قيادتهم الى ضبطهم ومنعهم من تنفيذ ما ازمعوا عليه.

مقابل هذا التوتر الحاد في الشارع يجول رئيس الجمهورية في بلاد الله سائحاً. الله وحده يعلم ما يدور في خلده او ما يدعوه الى هذه الجولات، فها هو في استراليا يدلي بتصريحات تجعل شعر رأس الرضيع ينتصب، فهو يتحدث عن الذهاب الى الانتخابات النيابية ولو بقانون الستين، ولو عدنا الى العام 1860، ملوحاً بذكرى بداية المجازر الطائفية في لبنان بين الطوائف، وخاصة بين الموارنة والدروز، وهي الذكرى التي لا تزال تجرجر نفسها غامضة في ذهن اللبنانيين، ولكنها ولا شك توحي بتاريخ دموي لا يني يتكرر ويعيد نفسه كل عقد ونصف او عقدين، وبدل ان يعمد رئيس البلاد الى طمأنة مواطنيه، ها هو يقف ليتحدث عن اصراره على حصول انتخابات نيابية لن تأتي بأي جديد بل ستعيد تكريس التحاصص بين العشائر اللبنانية. لكن اصراره على اجرائها يبلغ مبلغ الموافقة على حصول مجازر مذهبية لو تطلب الامر واستلزم.

وكأن رئيس البلاد في جولته انفصل عن الواقع الراهن، حيث تصر مجموعات سياسية ومذهبية على محاسبة بعضها وتقليص حصص بعضها عبر قانون النسبية، وضرب نفوذ اولئك الذين وقفوا الى جانب الثورة السورية من منطلق تصفية الحسابات الداخلية، وتقوية نفوذهم المحلي، ويصل حد الاصرار على المحاسبة، التي تشكل فرصة نادرة لضرب الخصوم، حد التفكير جديا بعدم الذهاب الى صناديق الاقتراع في العام المقبل.
يقابل هؤلاء من يسعون بأي طريقة الى المحافظة على مواقعهم في الانتخابات المقبلة، بانتظار ان يسقط النظام السوري ويتعدل وضعهم في لبنان تلقائياً او بمساعدة الحالة المذهبية في سوريا، وفي محاولة لمنع تدهور اوضاعهم يصرون على قانون العام 1960 بتعديلاته التي ادخلها غازي كنعان عليه، والا فتعطيل الانتخابات كخيار اخير لمنع تدهور حضورهم ولكسب المزيد من الوقت بانتظار سقوط النظام في سوريا.

وبين هذا وذاك، لا يبدو ان رئيس الجمهورية وحده من يعيش حالة الانفصام عن الواقع، ويتحدث عن شمول قانون الانتخاب للمهاجرين بينما البلاد تقف على أكف ألف عفريت، بل يخرج النواب عن الامة على الشاشات ليخاطبوا جمهورهم بسيل من الشتائم الموجهة الى زملائهم النواب الآخرين وأعضاء الحكومة الميقاتية.

يبلغ حد فصام السياسيين اللبنانيين عن واقع الاحداث درجات لا ينفع معها اي علاج، يشبهون المواطنين انفسهم الذين يستمرون في شتم السياسيين اربعة اعوام قبل ان يذهبوا دورياً لتكريسهم في المقاعد النيابية، انطلاقاً من هواجس طائفية مريضة وارتباطات مصلحية بسيطة ومتواضعة، بينما يستمر السياسيون بجر بلادهم الى هاوية الحروب الاهلية وهم يجمعون الاموال في ارصدتهم ويطلقون الاكاذيب عبر وسائل الاعلام ويتحدثون عن تطوير البلاد ويكيلون الاتهامات للآخرين.
لا يشفع لنا ويحمينا من امراض فصام السياسيين عن واقعهم الا الارادات الاقليمية والدولية التي تعيدنا دائماً الى جادة الصواب، وتفيدنا بأن لا احد يملك الجلد والوقت لمشاهدتنا نقتل بعضنا بعضا، لذا يؤجل اللبنانيون غزواتهم الدورية ويشاهدون امراض سياسييهم الاشد مرضا من مواطنيهم.

السابق
توتر بين قباني وشربل
التالي
النهار: المبارزة النيابية فتحت البازار الانتخابي المبكر و8 آذار تواجه المعارضة بإغراق عددي